هذه المجّانيّة في الخدمة هي لإظهار مفهوم «الأخوّة» الذي هو واجب غير مشروط في القراءة الفلسفيّة
فضلًا عن بعده اللاهوتيّ في تعهّد المؤمن قضيّة المسيح على الأرض. بهذه المجّانيّة خرج القدّيسان
قزما وداميانوس الماقتا الفضّة إلى العالم للشهادة للمسيح الذي أعطى كلّ شيء مجّانًا ليربح الكلّ بمجّانيّة
عطائه وفدائه. أعطى السيّد نفسه على الصليب ليكون الصليب الجامع بين الأرض والسماء، المعبَر
الحتميّ القياميّ للمؤمنين به إلى الملكوت الموعود.
هذا ما قام به القدّيسان قزما وداميانوس إذ بإيمانهما بالمسيح ومحبّتهما له جَعَلا مهنة الطبّ شهادة
للمسيح وتمجيدا لله، فكانت رعايتهما للمرضى بالمجّان عملًا بالقول الإلهيّ: «مجّانًا أخذتم مجّانًا
أعطوا» (متّى ٨:١٠) ـ في التزام واضح لمَسرى العفّة والفقر في خضوع عند قدمي المسيح، وقيل إنّ
عنايتهما بالمرضى امتدّت إلى البهائم لأنّها هي أيضًا من إبداع الله وتتألّم وتئنّ، كما عملا على المعالجة
بالأعشاب والأدوية ليسهما بنعمة الشفاء التي تأتي من فوق مترافقة مع الكلمة الطيّبة المعزّية وباللمس
على منوال الرسل.
هذه اليد للطبيب هي التي تخفّف من الوجع والألم، كما يد الأمّ على جبين ابنها، وهذه الراحة تأتي من يد
السيّد التي كان بها يشفي المرضى ويبرئ الموجوعين والعميان والمصابين. إنّ مجّانيّة الطبيب المؤمن
تأتي من يد السيّد ليشعر ويشارك المتألّمين الذين يحتاجون أوّلّا إلى كلمة تعزية في هذا الزمن
المضطرب، وأن تكون كلمة الربّ فاعلة فيهم ومحيية وطاردة لليأس لأمل واستنارة قلب واستقامة ركب
مخلّعة.
بهذه المجّانيّة تصبح الصلاة باسم الربّ يسوع وحدها الدواء الشافي الأساس للطبيب والمريض، إذ
يتكامل الإيمان والعلاج في وحدة حال، إذ حين يقف الطبّ حائرًا تأتي العناية الإلهيّة بمجّانيّة تعامل
الطبيب مع المريض تعزية وبركة وشهادة لاسم الربّ يسوع. من هنا فإنّ طروباريّة القدّيسين تتضمّن
الرسالة المجّانيّة كاملة إذ تقول: «أيّها القدّيسانِ الماقتا الفضّة، والصانعا العجائب، افتقدا أمراضنا، مجّانًا
أخذتُما، مجّانًا أعطيانا». تكمن هنا بوصلة المسيحيّ الخادم وفق: مَقت الطمع بالمال، صنع العجائب،
الافتقاد، المجّانيّة.
هذا كلّه لا يستقيم من دون انزياح القلب كاملًا إلى الله الذي ينظر إلى أعمال خادميه في المجالات كلّها،
فيبارك جهودهم وتعبهم ويكلّل سعيهم برعايته لهم لقوّة خدماتيّة أكبر وأوسع، ولنا اليوم في الجهازين
التمريضيّ والطبّيّ اللذين يتحمّلان الكثير من التضحيات والجهود، في زمن وباء كوفيد-١٩ وازدياد
الإصابات يوميًّا، مجّانيّة واضحة أمام رواتبهم التي فقدت قيمتها، فتراهم يحضنون المصابين ويعملون
على خدمتهم ورعايتهم، وكم يفرحون حين يشفون ويخرجون من الحَجر إلى عائلاتهم فيما هم يخضعون
للعدوى والبعد عن عائلاتهم في عمليّة صحّيّة متعبة يتحمّلونها من دون هَتك خصوصيّة المرضى. تلك
الطواقم التي تنكبّ ليس فقط لاحتضان المرضى صحّيًّا بل لمرافقتهم الشاملة في هكذا مِحنة ساعين إلى
التعويض عن غياب الأهل المعنيّين لتعذّر حضورهم بسبب طبيعة الوباء وخطر انتقاله. رهيبة هي أبعاد
تلك المِهَن التي تمدّ تضحيات أصحابها ببسالة البذل المستمرّ الصامت.
اللّهمّ أعطنا أن نغرف من محبّتك لنخدم المجروح والمتألّم والموجوع والمُنكسر رغم ظلمه. يأتيك
متوجّعًا لتشفيه وهو الذي أوجع الناس عبر أعماله ومهنته التى سعى عبرها إلى الطمع والجَشَع مُستغلًّا
وَجَع إخوته وحاجاتهم. أعطنا أن نرفع باسمك الهموم عن المتعَبين، والأحمال عن المساكين. ضع في
قلوب الخدّام المؤمنين ما وضعته في قلبَي قزما وداميانوس ليكونوا تعزية للمرضى في هذا الزمن
المتعِب المثقل بأطماع البشر وسَعيهم إلى القتل والتدمير والتفجير، متناسين أنّ الاخلاق تقوم في علاقة
البذل التبادليّة المجّانيّة. اكشِف لنا يا ربّ حكمتك في كلّ ما نقوم به ليرى الناس مجدك وبهاءك ومحبّتك
المجّانيّة التي لا تحدّ ولا توصف. آمين.