...

العذراء واتّباع يسوع

 

 

يعلن أيلول بدء سنة كنسيّة وزراعيّة جديدة. وهو يأتينا محمّلًا ليس فقط بأمطار الخريف، بل كذلك بأعياد كنسيّة ذات طابع شعبيّ ولاهوتيّ في الوقت ذاته. فاحتفالات عيد ميلاد السيّدة (٨ أيلول) تتواصل، عادةً لتلاقي احتفالات عيد رفع الصليب (١٤ أيلول).

لا يخفى على المؤمن مكانة السيّدة العذراء في الكنيسة، وهنا لا أعني فقط، ما تحمله التقاليد الشعبيّة من تكريم للعذراء، بل أشدّد على دورها في تاريخ الخلاص من جهة، وطاعتها الكلمة الإلهيّة من جهة ثانية. فالسيّدة، التي هي «قدّيسة القدّيسين» و«أرفع مجدًا بغير قياس من السرافيم»، شكّلت للمؤمنين والمؤمنات مثالًا يقتدى به. فصارت حياتها إنجيلاً معاشًا. والكنيسة التي أقرنت عيد مولد السيّدة بعيد الصليب، والتي تصوّرها واقفة تحت صليب ابنها، تفعل ذلك لتؤكّد لنا أنّ علاقة العذراء مريم بابنها يسوع، تتخطّى موضوع الأمومة الجسديّة. وذلك مع ما للأمومة من محبّة وبذل وعظمة. فعندما سمع الربّ يسوع إحدى النساء تقول «طوبى للبطن الذي حملك» (لوقا ١١: ٢٧)، أراد أن يكرّم والدته بشكل أكبر فقال «طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها» (لوقا ١١: ٢٨). وهو بذلك يقدّم والدته ليس فقط كقدوة صالحة للأمّهات بل كنموذج لكلّ المؤمنين.

اتّباع يسوع، كما يعلّمنا هو نفسه، ليس موضوع كلام، ولا موضوع قرابة جسديّة. وهنا أعني أنّ اتّباع يسوع لا يكون فقط بأن نولد من عائلة مسيحيّة أو في بيئة مسيحيّة. فهو أوّلاً موضوع إرادة، وإرادة حرّة. فيسوع يتوجّه إلى كلّ من يسمعه بالقول «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (متى ١٦: ٢٤). دعوة يسوع موجّهة إلى الأحرار، أحرار الإرادة، وطاعته لتكون حقيقة هي طاعة أحرار. وهذا يعني أنّنا باتّباعنا يسوع لا نتبع «أخلاق» جماعة معيّنة أو نلتزم «بمحرّمات» مجتمعيّة أو عائليّة. نحن نتبع الكلمة ونلتزم بمتطلّبات الإنجيل. وهذا ما فعلته العذراء مريم عند قبولها بشارة الملاك بأنّها ستلد المخلّص. هذا القبول جاء بسبب طاعتها كلمة الله التي كانت سمعتها وعاشتها منذ صغرها. هذا السماع وهذه المعرفة أوصلاها إلى القبول والطاعة. فمن يقبل صوتًا لم يعتد سماعه، ومن يطيع شخصًا لا يعرفه.

جاءت هذه الطاعة الصعبة، نتيجة معرفة ونتيجة حياة وتجربة. هي صعبة لأنّها تعني نكرانًا للذات وكفرًا بها. وهنا لا بدّ من إيضاح هذا الكفر والنكران الذاتيّ. فتبنّي مشروع الله في حياتنا يعني أوّلاً إلغاء مشروعنا الخاصّ. تصوّروا أن تقبل فتاة عذراء أن تظهر لخطيبها وللناس بأنّها تحمل طفلًا!  تخيّلوا أن يقبل رجل جليل وبارّ أن تكون خطيبته حبلى «قبل أن يجتمعا»! مشروع الله غالبًا ما يعني أن نجابه الناس ونظهر بمظهر لا يحبّونه أو لا يستسيغونه. تخيّلوا أن يقول رجل فقير، بلا مأوى وبلا مال، لأكبر مسؤول سياسيّ إنّه لا يحقّ لك أن تفعل كذا وكذا! فعلها المعمدان وفقد حياته (عيد الحبل به في ٢٣ أيلول). تخيّل أن تقول لأصدقائك إنّك لا تستطيع مشاركتهم السهرة حتّى الصباح، لأنّك ملتزم بصوم معيّن أو أنّك ملتزم بالاستعداد للقدّاس الإلهيّ! في كلّ مرّة يكون التزامنا متطلّبات طاعة الكلمة صعبًا فلنتذكّر التزام مريم، وطاعتها. طاعتها التي كان يمكن ان تؤدّي إلى موتها رجمًا بالحجارة بحسب تقاليد اليهود.

لقد أخبرنا يسوع مرارًا في الإنجيل، بأنّ العالم سيبغضنا إن تبعناه (يوحنّا ١٥: ١٨). وسيقتلنا إن تبعنا تعليمه. لكنّ المحبّة التي تجسّدت على الصليب، بموته من أجلنا، تكفي المؤمنين لتحدّي العالم. «فالمحبّة أقوى من الموت» (نشيد الأناشيد ٨: ٦). فالصليب الذي قد يبدو للبعض نهاية صعبة، يظهر للمؤمن مرحلة وطريقًا «صعبة وضيّقة» لكنّها تؤدّي إلى باب الخلاص، إلى الحياة مع يسوع، الذي قال للمتعبين «تعالوا إليّ وأنا أريحكم» (متّى ١١: ٢٨).

يأخذنا أيلول كالهواء «يلي مبلش عالخفيف» من عيد إلى عيد. من ميلاد «سيّدة العالم»، إلى عيد رفع «الصليب» الذي به خلّص المسيح العالم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العذراء واتّباع يسوع