...

الشهادة في عالمٍ يعاني

 

 

يُطلعنا سفر أعمال الرسل، أنّه بعد استشهاد إستفانوس (أعمال الرسل ٧: ٥٤-٦٠)، عن اضطهاد حصل
على الكنيسة في أورشليم: «وَكَانَ شَاوُلُ رَاضِيًا بِقَتْلِهِ. وَحَدَثَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ اضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى الْكَنِيسَةِ
الَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ الْجَمِيعُ فِي كُوَرِ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ، مَا عَدَا الرُّسُلَ.» (أعمال الرسل ٨: ١).
لم يترك الكهنة والفرّيسيّون والصدّوقيّون التلاميذ يبشّرون بالربّ يسوع، وأرادوا القضاء عليهم
فاضطهدوهم، رغم تنبيه غمالائيل لهم «إن كان من الله فلا تقدرون على أن تنقضوه. لئلّا توجدوا
محاربين لله أيضًا» (أعمال الرسل ٥: ٣٩) لكنّهم استمرّوا في غيّهم، ورجموا إستفانوس شهيد الكنيسة
الأوّل. وكان المسؤول، المعيّن من قبلهم، عن اضطهاد المسيحيّين شاول الطرسوسيّ (بولس الرسول)
الذي كان راضيًا عن موت إستفانوس، هذا الشعور من الغبطة، والرضى على تأدية الواجب، الذي
يراود الإنسان، الذي ينصّب نفسه مدافعًا عن الله، عندما يهين الآخر فقط لأنّ رأيه مخالفٌ لرأيه، ويذلّه
محاولًا إلغاءه، ولا يتوّرع عن قتله، ويظّنّ أنّه يقدّم عبادةً لله (يوحنّا ١٦: ٢).
ويظهر الاضطهاد في سفر أعمال الرسل مرافقًا للتلاميذ، وفقًا لما قاله يسوع: «إِذا اضطَهَدوني
فسَيَضطَهِدونَكم أَيضًا» (يوحنّا ١٥: ٢٠). ولكنّ الاضطهاد بدلًا من أن يخمد شعلةَ التبشير كان
يُضرِمها. حتّى ذلك الوقت، لم تكن من أولويّات التلاميذ والمؤمنين، بعد، الانطلاقة إلى البشارة بين
الأمم، فقد كانت شهادتهم محصورة في أورشليم. الأكيد أنّ التلاميذ كانوا مدركين أنّهم مُكلّفون من الربّ
يسوع لكي ينقلوا البشارة إلى العالم أجمع «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا»
(مرقس ١٥: ١٦)، لكنّهم لم يكونوا بعد يعرفون كيف سينطلقون. وأتى هذا الاضطهاد القاسي الذي بدلًا
من أن يقضي على المؤمنين، ويثبّط عزيمتهم، ويزعزع إيمانهم، وبدلًا من أن يرميهم في حالة من
الإحباط، والشكوى، والتذمّر، والضيق دفعهم إلى الهروب، والتشتّت في مناطق اليهوديّة والسامرة. أراد
اليهود طردهم من مدينة الله أورشليم، فإذا باللَّه يقيم قلوبًا يسكن فيها في أماكن مختلفة،» لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا
مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَة» (عبرانيّين ١٣: ١٤)، حيثما حلّ المؤمنون، أصبحوا زارعين، مبذّرين
بذار الكلمة الإلهيّة في النفوس. وهذا كان مصدر فرح لمن بشّروهم «فكانَ فرحٌ عظيمٌ في تلك المدينة»
(أعمال الرسل ٨: ٨). الفرح هو من ثمار الروح القدس، المؤمن دائمًا فرِح، حتّى في أوقات الشدّة،
الفرَح يأتي عندما نقبل نعمة الله، وعطاياه ونتمتّع بسلوك مشيئته متحلّين بالصبر.
لم يعدنا الربّ يسوع بطريق سهل مفروش بالورود، بل قال: «مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي
يُؤَدِّي إلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ» (متّى ٧: ١٤) الكنيسة من يوم العنصرة، من لحظة حلول
الروح القدس على التلاميذ (أعمال الرسل ٢)، سلكت كسيّدِها في طريق جلجلة مخضّبة بالضيقات
المختلفة: اضطهادات، تهديدات، افتراءات، بدع، شقاقات، تجارب، حروب…

نعيش اليوم في ضيق اقتصاديّ وصحّيّ، الخطر يداهمنا من كلّ الجهات، ويتحدّى ثباتنا في الإيمان،
وشهادتنا المسيحيّة. في التزامنا، كمؤمنين، الحياة بالمسيح. شهادتنا المطلوبة منّا كمسيحيّين، لا تفرق
عن شهادة الرسل، والقدّيسين، والشهداء. عبر التمسّك بإيماننا بالله، الذي يجب ألّا يتزعزع أمام أيّ شدّة.
السبل كثيرة ومتاحة أمامنا. بدءًا من بيوتنا، عبر تفعيل الصلاة في حياة العائلة. إذ لا شيء يحفظ الإنسان
ويقيه من التجارب بقدر الصلاة واللجوء إلى الله. هذه العشرة مع الله تملأنا بنعم الروح القدس، «محبّة
فرح سلام طول أناة لطف ….» (غلاطية ٥: ٢٢)، كما أنّ اليوم لدينا فرصةً للانطلاق نحو الآخر عبر
الإحسان على الصعيد الروحيّ والمادّيّ. المؤمن لا يمكنه أبدًا أن يكون حياديًّا أمام مصاعب الناس،
بالعكس هو متأهبٌ، ومبادرٌ، ومنطلقٌ نحو الآخر. كثرٌ، ممّن همّشتهم الحياة، أو من همّشوا أنفسهم
بالسلوك في دروب الخطيئة، بحاجة إلى احتضان، وإلى كلمة تعزية مشدّدة وحاملة للرجاء، وأن يشعروا
أنّهم محبوبون، وأنّهم موجودون في هذه الحياة، وأن ثمّة من يتلّمس أوجاعهم النفسيّة، والروحيّة. هذه
الانعطافة قد تردّ خاطئًا إلى التوبة، وتخفّف كثيرًا من وجع المتألّم، ومن حزن الحزين، ومن يأس الفاقد
الأمل. ولا ننسى أيضًا فتح أيدينا على العطاء، كلّ حسب قدرته وإمكاناته، حتّى ولو كان قليلاً، قيمته
عند المحتاج، وفي عيني الربّ كبيرة.
مسؤوليّتنا الأولى والأخيرة، كمسيحيّين، أن نزرع كلمة الله أوّلاً في نفوسنا، ثمّ في نفوس الآخرين، والله
هو الذي ينّمي الزرع لما فيه مجده وحده.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشهادة في عالمٍ يعاني