...

طبيبٌ في خدمة الكنيسة

 

 

 

وَصفَتان طبِّيّتان خلّدهما للبشريّة «الطبيب الحبيب» لوقا، كما دعاه بولس الرسول. وهاتان الوصفتان هما سفر الإنجيل وسفر أعمال الرسل الشاهد على كلمة الحياة المحيية.

وأمّا «لوقا»، فهي كلمة تعني في اللغة اللاتينيّة «مستنير»، وهي صفة جديرة بكلّ من ينعتق من الدنيا ويحمل صليبه ويتبع المسيح، مستعدًّا لبذل ذاته في سبيل الخدمة البشاريّة في الكنيسة.

هذا الأمميّ – الذي كان الخادم الأمين والصديق الوفيّ لبولس حتّى النهاية – اجتهد في العمل الكرازيّ ليضمّ أكبر عدد ممكن إلى قطيع المسيح، متوجّهًا إلى كلّ محبّ لله (ثيوفيلوس). وما من محبّ لله إلّا مشتعل بقوّة المحبّة الإلهيّة وتاليًا متأهّب أبدًا في خدمة التبشير بالكلمة. ومن أجل ذلك، أدّى لوقا، «منذ البدء» و«بتدقيق»، دور المحامي المدافع عن قضيّة الربّ يسوع، لأنّ لوقا كان متأكّدًا من براءة سيّده الذي قلب ظهورُه الأمور رأسًا على عقب. هكذا فإنّ معيار كلّ خدمة هو يسوع المسيح وقطع المشيئة الذاتيّة الخاصّة. وإنّ الإصغاء لكلمة الله والانتظار على الرجاء يدمغان اللاهوت اللوقاويّ. وأكبر مثال حيّ رسمه القدّيس لوقا في هذا الصدد هو العذراء مريم حين بشّرها الملاك جبرائيل. لقد «كتب» لوقا أوّل أيقونة للسيّدة كنموذج مثاليّ للطاعة وقبول إعلان الله.

ولا يقف لوقا عند الصليب وأشجانه، فهذه الأحداث ليست عائقًا للقيامة بل على العكس هو يركّز على وقائع الشفاء والخدمة الاجتماعيّة ومدّ يد المساعدة لكلّ محتاج، منطلقًا من إيمانه بانتفاء الخلاص خارج إطار الكنيسة. «هذا الطبيب» هو عبّارة ناقلة لروح الكنيسة الخدماتيّة. لذا حذار من أن نكمّ «ثورًا» مجنّحًا دارسًا في كلمة الله وفي كنيسته. هو يصف عالم الإنسانيّة ويركّز على جانب خدمة القريب، وهو المتفرّد في ذكر مثل السامريّ الشفوق والغنيّ ولعازر… ويشدّد على إظهار الربّ عطوفًا على النساء والفقراء والأمّيّين كطبيب للنفوس وللأجساد وكصديق للإنسان. هكذا إنّ مهنة الرسول لوقا قادته إلى دراسة طريقة عيش الناس. لذا يتّصف إنجيله بكونه إنجيل الحضن العائليّ. وقد خطّ لوقا حياة الربّ على هذا المنوال حين كان يحلّ ضيفًا على كلّ من يفتح له قلبه بصدق ومن دون مراءاة، فكان يحتضن ضيفه بمحبّة.

    اعتُبرت كتابات لوقا مساهمة قيّمة في فهمنا لمُلك المسيح بما أنّه كان مؤرّخًا وكاتب سير. هذا ما جعل منه النداء العميق المخاطب للشعوب عبر الأجيال ومصدر وحي لا يخزي. ولقد أغدق نقّاد الكتاب المقدّس عليه صفة الكاتب ذي الفنّ الأدبيّ العميق في أسلوبه الاستثنائيّ في إيراد الأناشيد الثلاثة بتفرّد وهي:

– التعظيمات Magnificat أو نشيد العذراء مريم (لوقا ١: ٤٦-٥٥).

– نشيد زخريّا الشيخ Benedictus (لوقا ١: ٦٨-٧٩).

– نشيد سمعان الشيخ Nunc Dimittis (لوقا ٢: ٢٩-٣٢).

أضحت هذه القطع صلوات خاصّة استخدمتها الكنيسة في خِدمها الليتورجيّة كهديّة ثمينة من لوقا.

ننتقل الآن إلى سفر أعمال الرسل حيث إنّ شموليّته حدت بالبعض إلى تسميته بـ «الإنجيل الخامس» و«إنجيل الروح القدس»؛ كما دعاه القدّيس  الذهبيّ الفم «الدليل على القيامة». هناك كشف في هذا السفر عن استمرار قصد الله من التاريخ، فإن كانت أحداث الخلاص التي تمّت بالمسيح دخلت التاريخ كأحداث تاريخيّة، لكنّها تُبقي هذا العمل الإلهيّ الفائق حسب مشورة الله المحتومة وعلمه السابق (أعمال الرسل ٢: ٢٣). وفي التفكير اللوقاويّ، إنّ نهاية سيرة يسوع هي الكنيسة. من هنا التركيز على حادثة الصعود الإلهيّ، إذ إنّ لوقا بنى جسرًا بين فترتين متداخلتين هما القيامة والصعود. لقد تميّز الرسول لوقا بتفسير العلاقة بين «يسوع التاريخيّ» و«الكنيسة» ووصفها. من هنا وصف المؤرّخون لوقا بأنّه «أبو التاريخ الكنسيّ» لكونه كان معنيًّا بربط كتاباته بمتطلّبات عصره. والكلمة المفتاح التي تلخّص دوره ككاتب إنجيليّ ومؤرّخ هي كونه «راعيًا» pastor وهدفه الرئيس كان مساعدة الكنيسة الأولى على الكرازة  kerygma عبر تقديم المشورة الرعائيّة وتشجيع المؤمنين المحتاجين إلى تعليم صحيح ومثال حيّ عن الربّ القدّوس.

 

 

 

 

 

 

 

 

طبيبٌ في خدمة الكنيسة