...

شهادة بولس أثناء الاعتقال

 

 

 

ألقى الرومان القبض على بولس بسبب البلبلة التي أثارها اليهود في أورشليم بحجّة أنّه دنّس الهيكل
(أعمال ٢١: ٢٧-٣١). قيّده آمر الكتيبة بسلسلتين (أعمال ٢١: ٣٣) ظانًّا أنّه «المصريّ الذي صنع قبل
أيّام فتنة وأخرج إلى البرّيّة أربعة الآلاف الرجل من القتلة» (أعمال ٢١: ٣٨). خلال سنتين من
الاعتقال، عجز اليهود عن إثبات أيّ جرم ضدّه أمام الوالي فيلكس، الذي احتجزه طول هذه الفترة
«راجيًّا أن يعطيه بولس دراهم ليطلقه» (أعمال ٢٤: ٢٦). تعيّن فستوس واليًّا جديدًا عوضًا من فيلكس،
وحاول اليهود مجدّدًا استمالة الوالي الجديد ليحكم على بولس، لكنّ الأخير إذ ساوره الشكّ من جهة نيّة
الوالي، تحصّن بحقّه كمواطن رومانيّ والتمس رفع دعواه إلى القيصر (أعمال٢٥: ١-١٢). زار الملكُ
اليهوديُّ أغريبّا الوالي فستوس مهنّئًا، فأعلمه الأخير بقضيّة بولس ملتمسًا مشورته، فعبّر أغريبّا عن
رغبته في سماع بولس (أعمال٢٥: ١٣-٢٢). تمّ الأمر في اليوم التالي إذ «جاء أغريبّا وزوجته برنيكي
في احتفال عظيم ودخلا دار الاستماع مع الأمراء ورجال المدينة المقدّمين فأمر فستوس بإحضار
بولس» (أعمال ٢٥: ٢٢-٢٧).
لاحظ بولس أنّ الحاضرين من نخبة أهل المدينة، فعندما أذن له الملك بالكلام، خاطبهم بحرص شديد
وتركيز كامل، بأسلوب مفعم بالتشويق والإثارة، ليس للدفاع عن نفسه بمقدار ما أراد إبهارهم
واصطيادهم. أخذ يروي أنّه كان متّجهًا نحو دمشق متحصّنًا بتكليف رسميّ من رؤساء الكهنة لاعتقال
المسيحيّين ومعاقبتهم (أعمال ٢٦: ٩-١١). لكنّ الربّ يسوع اعترض مسيرته وتجلّى له برؤيا إلهيّة
وكلّفه بمهمّة جديدة تناقض بالكامل مهمّاته السابقة. يعرض بولس مشهد الرؤيا مستعملًا عناصر من
أسفار أنبياء العهد القديم، يألفها الحضور من اليهود وبالأخصّ الملك. يستهلّ بولس الرؤيا ببريق النور
ويحدّد السماء مصدرًا له، ليزيل أدنى شكّ لدى السامعين في أنّ الأمر نتاج خدعة بشريّة. أمّا لمعانه
فيفوق ذروة توهّج الشمس عند الظهر للدلالة على أنّ هذا لمعان نور مجد الربّ. أمضى موسى أربعين
يومًا على الجبل معرّضًا لنور مجد الربّ، فصار وجهه لامعًا لدرجة أنّه سبّب الذعر في قلب أخيه
هارون وقلوب الشعب، فخافوا أن يقتربوا إليه إلى أن أسدل برقعًا على وجهه (خروج ٣٤: ٢٧-٣٥؛
٢كورنثوس ٣: ١٣-١٦). هذا النور ذاته عاينه على جبل التجلّي بطرس ويعقوب ويوحنّا صادرًا من
وجه يسوع (متّى١٧: ١-٨؛ مرقس ٩: ١-٨؛ لوقا ٩:٢٨-٣٦). حرص بولس على ذكر مرافقيه ليؤكّد
حضور شهود عيان يثبتون صحّة ما يصرّح به. ها هم ينطرحون أرضًا كما يصف الأنبياء السلوك
النموذجيّ الناتج من وطأة النور الإلهيّ وكما انطرح التلاميذ على جبل التجلّي. أمّا الصوت فلا يسمعه
سوى بولس، لأنّه كالأنبياء والتلاميذ معنيٌّ وحده بالرؤيا والتكليف المنبثق عنها، وما يذكره عن التكلّم
باللغة العبريّة (أعمال ٢٦: ١٤)، ومناداته باسمه العبريّ شاول عوضًا من بولس، فهو للجزم بأنّ الإله
المُعتَلن  يسوع، هو نفسه إله العبرانيّين المذكور في الأسفار المقدّسة.

«صعب عليك أن ترفس مناخس». المنخس أو المهماز قطعة من معدن حادّ يُثبّت أسفل حذاء الفارس
ويُستعمل لوخز الحصان ودفعه إلى السير. أمّا الرفس فهو ردّ فعل الحصان للمقاومة، إلاّ أنّه مهما علا
الحصان برفسه فلن يبلغ المهماز. فما يقوله الربّ لبولس: أنتَ لن تستطيع أن تقاومني وتنجح، فالأجدر
بك أن تنصاع لرغبتي وتنطلق إلى حيث أوجّهك أنا. لا شكّ في أنّ بولس أدرك أنّه موجود بحضرة الإله
ولا بدّ من أنّ الحيرة تملّكته، لأنّه كان يعرف جيّدًا أنّه اضطهد أتباع يسوع، لذلك وجد نفسه مضطرًّا إلى
طرح السؤال: «مَن أنت يا سيّد؟» عرّف يسوع عن نفسه بكلام واضح لا يحتمل التأويل: «أنا يسوع
الذي تضطهده» (أعمال ٢٦: ١٥)، وتابع بسلطان مُطلق «ولكن قم وقف على رجليك» ما معناه: لستَ
في ما بعد سيّد نفسك، بل أنا مَن يُمسك بزمام الأمور، وهذه الرؤيا التي تعاينها ليست لردعك عمّا
ترتكبه فقط بل «لأنتخبك خادمًا وشاهدًا بما رأيت وبما سأظهر لك به» (أعمال ٢٦: ١٦). يأمره يسوع
بالوقوف كما وقف الأنبياء قديمًا (حزقيال ٢: ١-٣) وكما يقف الخادم بين يديّ سيّده ليتسلّم مهامّه، التي
في حالة بولس تُترجم بالشهادة لمِا عاين ولِما سيمّده به يسوع على مدى الأيّام القادمة، ليفتح عيون الناس
وينير بصائرهم. وكما طمأن الربّ النبيّ إرميا قديمًا قائلًا: «لا تخف من وجوههم لأنّي أنا معك
لأنقذك…» (إرميا ١: ٨)، أعلَمَ يسوع بولس أنّه يُنقذه من اليهود الذين ينبغي أن يرجعهم من الظلمة إلى
النور، ومن الأمم، أي الوثنيّين الذين ينبغي أن يحرّرهم من سلطان الشيطان ليرجعوا إلى الله، فينالوا
بواسطة الإيمان بيسوع «غفران الخطايا» (أعمال ٢٦: ١٨) ونصيبًا في ملكوت الله مع جماعة
القدّيسين.
عند هذه المرحلة وجّه بولس كلامه إلى الملك أغريبّا خصّيصًا، وأوضح له أنّ اعتقاله ومثوله أمامه
اليوم هما نتيجة طاعته الفوريّة للرؤيا، وأنّه بأمانة تامّة بشّر على مدى السنين بما سبق وأعلنه الأنبياء،
وموسى، حول آلام المسيح وقيامته من الموت (أعمال ٢٦: ١٩-٢٣). أدرك الملك أغريبّا عند هذه
المرحلة نيّات بولس الحقيقيّة الكامنة في حديثه، وهي بالضبط ما كُلّف به بالرؤيا: أن يشهد للمعاينة لينير
الحاضرين عساهم يؤمنون بيسوع. لذلك «قال لبولس بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًّا» (أعمال ٢٦:
٢٨)، عندها أفصح بولس عن نيّاته بصدق قائلًا: «كنت أصلّي إلى الله أنّه بقليل وبكثير ليس أنت فقط
بل أيضًا جميع الذين يسمعونني اليوم يصيرون هكذا كما أنا ما خلا هذه القيود» (أعمال ٢٦: ٢٩).
لم يخطّط بولس ليدافع عن نفسه أمام الملك والحضور، بل جلّ ما أراده هو أن يستغلّ الفرصة ليبشّر
بيسوع ويصطاد الحاضرين بشبكة الحياة الأبديّة. لم يعطّل الاعتقالُ الرسولَ بولس عن الشهادة ونحن
اليوم نظيره، تحت وجه جديد من وجوه الاعتقال، فإذ نقتدي به ونشهد لآلام الربّ وموته وقيامته، بما
أوتينا من فرص ووسائل، نحرّر أنفسنا، ونمدّ السامعين بعزاء ورجاء وفرص للتمسّك بخلاص الربّ
وضمان الحياة الأبديّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شهادة بولس أثناء الاعتقال