السنة ٧٢١ ق.م. سقطت مملكة إسرائيل تحت قبضة الجيش الأشوريّ. رُحِّل عدد من سكّانها إلى الأراضي الأجنبيّة حيث اندمج المجليّون في أوطانهم الجديدة وفقدوا هويّتهم كبني إسرائيل. إلّا أن ممكلة يهوذا نجحت في البقاء تحت حكم الملك حزقيّا كمملكة مستقلّة. في هذه الفترة، نشط عدد من الأنبياء في يهوذا، ومنهم إرمياء النبيّ ومعاصره النبيّ والكاهن حزقيال. إلى أن سُبي حزقيال النبيّ بدوره على يد البابليّين في السنة ٥٩٧ ق.م. ويتّضح من ٢ملوك ٢٤: ١٠-١٧ أنّ عمليّة نبوخذنصّر كانت موجّهة ضدّ بيت الملك والهيكل.
ظنّ الشعب أنّ المدينة والهيكل لن يصيبهما شيء، وأنّ مدّة السبي لن تطول، فتمادى الكلّ في الشرّ. عنفٌ وجرمٌ وإراقة دم (حزقيال ٧: ٢٣ و٩: ٩). خيانةٌ وزنى وبغاء (حزقيال ١٦: ٢٢ و٥٢). عبادة وثنٍ ممارَسة حتّى في هيكل الربّ (حزقيال ٨). إباحيّة يوميّة. إهانةُ أبٍ وأمٍّ، معاملةُ النزيل بالظّلم، جورٌ على اليتيم والأرملة (حزقيال ١٢: ٣-١٢). ظلمٌ للبائس والمسكين. باختصار، تدنّس الربّ في وسط شعبه (حزقيال ٢٢: ٢٣-٣٠). هذا ويعتبر النبيّ أنّ الخيانة الكبرى تكمن في استسلام أورشليم للكبرياء (حزقيال ٧: ٢٠ و٢٤). «كانت قلوبهم تسير وراء قذاراتهم»، «وعيون الأبناء وراء قذارات آبائهم». فهم كالأمم، كقبائل الأرض، يعبدون الخشب والحجر (حزقيال ٢٠).
وقبل انهيار المدينة، يترك الربّ الهيكل والمدينة (حزقيال ١٠: ١٨-٢٢). ويحصل الظهور الإلهيّ خارج أورشليم ويهوذا على ضفاف نهر خابور (كَبار) بالقرب من مدينة تل أبيب (١: ١-٣، ٣: ١٥). الله قادرٌ على أن يظهر هناك. لا بل يُظهر نفسه أنّه موجود في كلّ مكان في الوقت ذاته، ويصبح النبيّ حزقيال مسكنًا له. أطعمه الله الدرج فامتلأت أحشاؤه وصارت كلمة الله في فمه كالعسل حلاوة (٣: ١-٣). صار رقيبًا لبيت إسرائيل مُكلّـفًا بالمناداة بكلمة الله «سواء أسمعوا أم لم يسمعوا» (حزقيال ٣: ١١). المهمّ أن يعرف المجليّون، أيًّا كان تمرّدهم، أنّ في وسطهم نبيًّا (حزقيال ٢: ٥). ما عاد الهيكل ولا أورشليم مسكن الله الوحيد، أو حتّى الأوّل، بل صار واحدًا من الأمكنة التي يزورها.
رأى النبيّ أنّ خطيئة الشعب ستنتهي حتمًا بدينونة شديدة، فأصرّ على انذاره بأقواله (٧: ٩-١١)، وأعماله (٤-٥)، إلى أن استُولي على أورشليم وخُرِّبت وأُحرقت، وذهب الباقون إلى الجلاء. ومع سقوط الهيكل الذي لا يُغلَب ودمار أورشليم، يظهر زيف إيمان اليهوذيّين العنيد والأعمى. طُلب من حزقيال النبيّ ألّا يندب ولا يبكي ولا يذرف دمعة، وأن يتنهّد ساكتًا (٢٤: ١٥-٢٧). لا شكّ في أنّ حزنه لم يقلّ عن حزن المجليّين الذين خارت عزيمتهم فصرّحوا بأنّهم يرزحون تحت ثقل خطاياهم فقالوا: «قد يبست عظامنا وهلك رجاؤنا وتجزّأنا» (٣٧: ١١)، «وأنّ معاصينا وخطايانا علينا، ونحن بها نتعفّن، فكيف نَحيا؟» (٣٣: ١٠).
يشدّد النبي على إمكانيّة التوبة (١٢: ١٨-٣١)، ويحثّهم على نبذ جميع معاصيهم التي عصَوا بها الله.
ما يدعو إلى الرجاء أنّه ستكون هناك بقيّة (٦: ٨-١١ و٩: ٤-٨)، وأنّ الربّ يعرف كيف يعيد الحياة بروحه إلى شعبه، حتّى ولو صار عظامًا رميمًا بلا حياة. وإن كان كلّ إسرائيل ميتًا، إلاّ أنّ قيامةً ستحصل (٣٧: ١-١٤). لكنّ حياة الناجين تختلف كلّ الاختلاف عن حياتهم السابقة. ينزع الربّ قلب
الحجر منهم، ويعطيهم قلبًا من لحم، ويجعل روحه في أحشائهم. يجعلهم الربّ يسيرون على فرائضه ويحفظون أحكامه ويعملون بها (٣٦: ٢٤-٤٨). العلاج بحسب تثنية الاشتراع «ختانة القلب» (تثنية ١٠: ١٦). ذلك بأنّ المطلوب «أن تعبد الرب ّمن كلّ قلبك» (تثنية ١٠: ١٢)، وأن تحبّه تجاوبًا مع حبّه لشعبه «َلأَنَّهُ قَدْ أَحَبَّ آبَاءَكُمْ، وَاخْتَارَ ذُرِّيَّتَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ» (تثنية ٤: ٣٧)، وأن تنادي معترفًا: «اسمع يا إسرائيل، الربّ إلهنا ربّ واحد. فتحبّ إلهك من كلّ قلبك وكلِّ نفسِك وكلِّ قوتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم في قلبك» (تثنية ٦: ٤-٦).
لكي يحصل هذا، لا بدّ من نظام من نوع جديد، يصبح فيه الربّ نفسه الحاكم مباشرة، الراعي شعبه بعدلٍ (حزقيال ٣٤: ١١-١٦)، بدلًا من رؤسائهم المختلسين المتسلّطين الذين يزرعون أنفسهم (٣٤: ١-١٠). وانطلاقًا من الإيمان بالوحدة والكمال كصفتين لإله إسرائيل (٣٩: ٢١-٢٩)، بدأت الفكرة أنّ شعب الله يجب أن يكون كيانًا واحدًا، شعبًا لا ينقسم، بل يضمّ إسرائيل ويهوذا كليهما. ويقيم إسرائيل في أرض الميعاد المجدّدة المرتوية بالماء المنبثق من الهيكل (٤٧)، وفيها تؤَدّى العبادة ويُكرَّم مجد الربّ العائد إلى القدس (٤٣: ١-١٢). سيكون الهيكل مركز حياة الشعب، ومن ذلك اليوم يكون «الربّ هناك» (٤٨: ٣٥). يسكن الربّ مع الناس، كما يقول كاتب سفر الرؤيا، وهم يكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم (رؤيا ٢١: ٣٩).
الله لا يرتبط بمدينةٍ أو بمعبد، بل هو موجود في البرّيّة، مستقلًّا عن أيّة مؤسّسة قائمة أو معبد.
ظهر النبيّ حزقيال في وقت صعب من تاريخ إسرائيل، وكُلِّف بمهمّة تُناسب زمانه ونفّذها. الكلمة التي ملأت أحشاءه حلاوة تناسب الأجيال كلّها، وتخاطبنا اليوم في أصعب الظروف التي نعيشها مع العالم. الوقت ليس وقت بكاء وندب، بل زمان توبة. الخطيئة الكبرى أن نفقد هويّتنا كجسد المسيح الحيّ.
ما زال شعب الله يقع مرارًا وتكرارًا في الخطيئة، وبها يتعفَّن. غير أنّ الله قادرٌ على أن يستأصل الإثم والخطيئة بصفحه عنّا. فُرصتنا اليوم لتحقيق الجدّة في علاقتنا مع الله. علاقة جديدة بالكلّيّة لا تقتصر على معرفة مشيئة الربّ فحسب، بل على التقيّد بها.
الله معنا اليوم وكلّ يوم حيثما كنّا، في الكنيسة والبيت، في الحَجر والمستشفى، في بلادنا وسواها من أصقاع الأرض.
سيُغيّب الوباء أحبّة أعزّاء. أمّا الله، فقادرٌ على أن يُعيدنا بروحه إلى الحياة، إلى حياةٍ تختلف عن حياتنا السابقة، حتّى يتجلّى الله ويظهر بمجده هنا وهناك.