...

الحكمة في حلّ الأزمات: القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم والأزمة الأمنيّة في أنطاكية سنة ٣٨٧

 

 

منذ نشأة الكنيسة حتّى اليوم، مرّت هذه وما تزال، بظروفٍ صعبةٍ جدًّا وأزمات على مختلف الأصعدة:
الدينيّة والسياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والصحّيّة… وقد أصابت كنيستَنا الأنطاكيّة أزمةٌ أمنيّة كبيرة في
العام ٣٨٧م.
ففي شهر شباط من العام المذكور، أرادت الأمبراطوريّة الاحتفال بمرور عشر سنوات على حكم
الأمبراطور ثيوذوسيوس، ففرضت الضرائب لتمويل هذا الاحتفال. استثقل الأنطاكيّون هذه الترتيبات
الماليّة الجديدة. وما زاد الأمر سوءًا هو العنف الشديد الذي أبداه جباة الضرائب واشتداد وطأة الظلم على
الفقراء.
لجأ الناس إلى الحاكم الذي أقفل باب قصره في وجههم وهرب من الباب الخلفيّ. خاف من الشعب،
وخاف على مصالحه مع الأمبراطور. اقتحم الناس الثائرون القصر، فوجدوه خاليًا.
مؤلمٌ ومحزنٌ ومستفزٌّ أن يفرغ القصر عندما يحتاج الشعب إلى مساعدة الحكّام. حينئذٍ حطّموا تمثال
الأمبراطور الموجود وأهانوه في ثورة غضب. وقاموا بأعمال شغب وتكسير. تحطيم تمثال الأمبراطور،
رمز الأمبراطور، كان جريمةً لا تُغتفر وعقابها الموت.
بعد فورة الغضب، استفاق الشعب على القباحة التي اقترفوها، فدبّ الذعر أكثر.
جمع الحاكم العسكر وبدأ بالمجزرة والذبح. طارد الناس أينما كانوا رجالًا ونساءً وأطفالًا. ثمّ أرسل إلى
الأمبراطور ليخبره بما حدث. فجنّ جنون الأمبراطور وأمر بإهلاك المدينة.
عرف الأنطاكيّون حينها أنّ موتهم بات مسألة وقتٍ … هنا تدخّل القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم الذي كان
كاهنًا وواعظًا في أنطاكيا. أوّل ما قام به أنّه توقّف عن الوعظ لثلاثة أيّام، بغية الصمت والصلاة
واستلهام الروح القدس، وراح يصلّي لكي ينقذ الربّ الأنطاكيّين من الموت.
بعدها أقنع الأسقف فلافيانوس الخائف بسبب الوضع وبسبب شيخوخته، بأن يستدرك غضب الأمبراطور
وبأن يُسرع إلى العاصمة لمقابلته. قال له: «لا يحقّ لك الرجوع إلّا بعد الحصول على العفو عن
الأنطاكيّين، كما فعل موسى مع الربّ» (خروج ٣٢: ٣٢). وحضّر له خطابًا قويًّا وأعدّ له كلّ ما يلزم
للمهمّة.
ثمّ عاد إلى الوعظ وتهدئة الشعب الخائف، فلجأ الناس إلى الكنيسة التي كانت تمتلئ يوميًّا.

لكنّ الأسقف تأخّر وسبقه المرسَلون من الحاكم. ثمّ بعد ورود إشاعة عن اقتراب الموفدين من
الأمبراطور، عاد اليأس إلى الناس، وتركوا الكنيسة، وهرب كثيرون منهم.
حزن قدّيسنا كثيرّا على ضعف إيمان الأنطاكيّين، وهروبهم وقت الضيق. لكنّه تذكّر المتوحّدين العائشين
في البراري والجبال. فبعث إليهم رسالةً يحثّهم فيها على الظهور في أنطاكيا لتخليص أخوتهم من
التعذيب والموت. أمّا هو فعاود صلاته الحارّة. وصل الخبر إلى المتوحّدين وسارعوا إلى المدينة،
لينقذوا من الموت أناسًا لا يعرفونهم ولا تربطهم بهم إلّا رابطة المحبّة في المسيح. فمجرّد وجودهم
أدخل التعزية إلى قلوب المواطنين البائسين وأزال عنهم الخوف. وقفوا في الساحات التي هرب منها
الناس. واجهوا المعتدين بالشجاعة وكلمة الحقّ. عرضوا أنفسهم أسرى وفدية عن الناس.
أحدهم ويدعى مكدونيوس، هو أوّل من ظهر. اعترض في الساحة العامّة طريق المرسلَين
الأمبراطوريّين وأمرهما بالترجّل عن حصانيهما وتكلّم كمن له سلطان. وأمرهما بالرجوع إلى
القسطنطينيّة وإبلاغ رسالته إلى الأمبراطور بأنّ كونه امبراطورًا لا يعطيه الحقّ إطلاقًا بقتل أيّ إنسان
… عليه أن يكفّ عن قتل الناس. فكلّ إنسان مخلوق على صورة الله… وبالفعل حمل المرسَلان رسالة
الناسك إلى الأمبراطور.
أخيرًا وصل فلافيانوس إلى القسطنطينيّة وهرع إلى البلاط وخاطب ثيوذوسيوس بخطاب طويل، جاء
فيه: «لست فقط رسولَ شعب أنطاكيا بل سفير الله، أتيت باسمه أنبئك بأنّك إن غفرت للناس سيّئاتهم
وهفواتهم، غفر لك أبوك السماويّ مساوئك وزلّاتك … فبمثل ما تحكم الآن يحكم عليك».
ثمّ وصلت رسالة الناسك إلى الأمبراطور، فأصدر عفوه عن الأنطاكيّين. وهكذا أزال الله بأعجوبة شبح
الموت المرعب والمحتّم عن كنيسته.
المسيحيّ، كمعلّمه، يغضب على الخطيئة، لا على الخاطئ (يوحنّا ٢: ١٥)، يدافع عن المظلومين ولا
يهين الظالمين، يحارب الفساد لا الفاسدين، إنّما بوسائل تتناسب مع إيمانه وسلوكه المسيحيّ.
الربّ يحذّرنا من الغضب على الآخر (متّى ٥: ٢٢)، الذي غالبًا ما يقود الإنسان إلى اقتراف الأخطاء
(أفسس ٤: ٢٦)، ويمنعنا من الردّ على الشرّ بالشرّ (متّى ٥: ٣٩). الصبر، الهدوء، التروّي، التمييز
والتصرّف بحكمة، هي التي توصل إلى نتيجةٍ مرجوّة وبنّاءة، بخاصّة في المواقف الحسّاسة والصعبة.
والحكمة في حلّ الأزمات تأتي من الصلاة، من حضور الله في الذهن والقلب، من الروح القدس. وكذلك
القوّة والشجاعة. وهذه الصلاة الفاعلة هي ثمرة تدريب يوميّ وعلاقة يوميّة مع الربّ وجهاد روحيّ
مستمرّ.
المؤمنون يلجأون في الضيقات أوّلًا إلى الله. يتوبون، يصومون، ويصلّون طالبين الصبر والاحتمال
أوّلًا، ثمّ المعونة لكي يجتازوا الضيق. يستلهمون الله أن يقودهم إلى المخرج. والله يحضر لمساعدة
أولاده وتظهر قوّته وتدخّله في حلّ الأزمات خصوصًا عندما تعجز القدرة البشريّة. فالذي قسّى قلب
فرعون (خروج ٧: ٣)، حنّن قلب الأمبراطور ثيوذوسيوس ويستطيع أن يحنّن قلب أيّ حاكم، مهما علا
شأنه ومهما اشتدّ ظلمه وقسوته.
كما يلجأ المؤمنون إلى رجال الله. فهؤلاء يساعدون بفضل نعمة الله المعطاة لهم (أفسس ٣: ٢).
المسيحيّون لا يهربون، بل يواجهون متّكلين على الله. يستمدّون القوّة من الله ثمّ يشدّدون إخوتهم
ويعزّونهم ويشجّعونهم بكلامهم وحضورهم وسلوكهم.
كما يدعون إخوتهم إلى التعاضد والتكاتف ويحثّونهم على العمل معًا. ففي الاتّحاد قوّة، وعندما يجتمع
الإخوة باسم الربّ، يكون هو حاضرًا في ما بينهم.
الهدف من كلّ ضيقٍ يسمح به الله، هو أن نتقرّب منه أكثر، أن نتقدّس، لأنّ حكمة الله تقضي أنّه
«بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله» (أعمال الرسل ١٤: ٢٢).
نصلّي إلى الله لا ليؤازر حكّامنا في كلّ عملٍ صالحٍ فحسب، بل ليجعلهم يتوبون إليه. ونصلّي ليلهمنا
نحن أيضًا إلى كلّ عملٍ صالح يرضيه. هذا من شأنه أن يجعل الوطن الذي نعيش فيه، مكانًا لحضور الله
وسلامه وبركاته.

 

 

 

 

 

 

 

الحكمة في حلّ الأزمات:
القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم والأزمة الأمنيّة
في أنطاكية سنة ٣٨٧