...

الأغنياء والفقراء للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم

 

 

إنّ الحاجة لا تقصر في الفقراء إلى الأغنياء بل الأغنياء أيضًا هم في حاجة إلى الفقراء. وحاجة أهل الثراء إلى ذوي العَوَز أكثر من حاجة هؤلاء إلى أولئك. ولكي يظهر لكم الأمر بأجلى وضوح. فلنتمثّل إن شئتم مدينتين. الواحدة يؤلّفها الأغنياء. والأخرى الفقراء. ولا يبقيَنَّ في مدينة الأغنياء فقير. ولا في مدينة الفقراء غنيّ. بل فلنميّز كلتيهما تمييزًا تامًّا ولننظر أيّ المدينتين يمكنهما أن تستغني بذاتها. فإن وجدنا أنّ مدينة الفقراء تستطيع ذلك. يكون قد استبان أنّ الأغنياء هم أمسُّ حاجة إلى الفقراء.

لا يكن إذًا في مدينة الأغنياء عامل من العمّال. فلا بنّاء، ولا نجّار ولا إسكافيّ ولا خبّاز ولا فلّاح ولا حدّاد ولا صاحب مهنة من المهن، لأنّه مَن من الأغنياء يرضى بأن يزاول هذه الصنائع، في حين أنّ أصحابها أنفسهم بعد اغتنائهم لا يقوون على احتمال مشاقّها، فكيف تستقلُّ هذه المدينة بذاتها؟

يقول قائل: إنّ الأغنياء يبذلون الفضّة ويبتاعون حاجاتهم من الفقراء. إذًا فما هم في غناء إن كانوا في حاجة إلى أولئك. ولكن كيف يشيِّدون المنازل؟ ألعلّهم يبتاعون ذلك أيضًا؟ إنّ الطبيعة لا تُغِلُّ لهم بيوتًا. فها إنّ الضرورة دفعتنا إلى أن ندعو ثمّة العمّال وأن نفسد ما وضعناه من النظام للمدينة التي أنشأناها. وتذكرون أنّنا قلنا لا يبقينَّ فيها من فقير بيد أنّ الحاجة قد استدعتهم عن غير رضانا وأدخلتهم إلى تلك المدينة. من ذلك يتبيَّن أنّ مدينة الأغنياء لا يمكنها القيام بدون الفقراء وإن أصرّت على ألّا تقبل أحدًا منهم فهيهات أن يدوم لها بقاء بل هي صائرة إلى الزوال. فهي إذًا لا تستغني بذاتها إلّا أن يدخلها الفقراء ويخلّصوها.

وهاتِ ننظر مدينة الفقراء لنرى هل يُلمّ بها العوز ذاته إن هي حُرمت من الأغنياء. وقبل كلّ شيء لنصف كلمة الغنى ولنحُلّ غامضها. فما هو الغنى؟ هو الذهب والفضّة والحجارة الكريمة والثياب الحريريّة… وإذا كان ذلك هو الغنى فلننبذه من مدينة الفقراء إن شئنا أن تكون المدينة خالصة منقّاة. أتحسبون أنّ أهل تلك المدينة يمسّهم الضيق بسبب ذلك الحرمان. كلّا. إذ لا يُحتاج في البناء إلى الذهب والفضّة واللآلئ، وإنّما الحاجة إلى صناعة وأيدٍ ولا أعني الأيدي فحسب بل الأيدي الحاذقة وإلى بنانٍ خشنة وقوّة كثيرة وإلى خشب وحجارة. كذلك نسج الثياب لا يحتاج فيه إلى ذهب وفضّة وإنّما إلى حذق وأيد ونساء نشيطات. وفي حرث الأرض أإلى الأغنياء حاجتنا أم إلى الفقراء؟ طبعًا إلى الفقراء. لأنّ في كلّ عمل لا بدّ من أن نُسند حاجتنا إلى هؤلاء القوم. وبعد فما حاجتنا إذًا إلى الأغنياء؟

فإذا طرقت آذاننا هذه الأمور أيّها الأحبّاء فلا يكسرننا الفقر ولا يبطرننا الغنى، بل بين تقلّب الأمور لنحفظ عقلًا ثابتًا فنقتطف ثمرة الحكمة الحقيقيّة ونجني السعادة بنعمة ومحبّة الربّ إلهنا يسوع المسيح.

 

 

 

 

 

 

 

 

لأغنياء والفقراء

اللقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم