...

من الجيفة عسلٌ

تاريخ الخلاص مخضّب بالدم، أُممٌ توالت، قضاةٌ وملوكٌ وأنبياء تعاقبوا، شعراء وكُتّاب ومؤرِّخون سطّروا، ثورات عَلت، قبائل هلّلت وأُناسٌ عارضت، لكنّ الوعد بالخلاص بقي مُصانًا. مترئِّسون اِندحروا، فُقراء تعظَّموا، أمبرطوريّات تبدّلت وثقافات تغيّرت، ولكنّ الكلمة الفصل ثبتت «الخلاص مُحقّقٌ».

إسرائيل القديم شعب غَلُظَ قلبه، وجفّ كيانه مرّاتٍ ومرّات. ابتعد عن الينبوع الحيّ، عبد آلهة غريبة، وتوغّل في حمأة الخطيئة. صارت حياته موتًا وقيامته مستحيلة، ولكنّ الله الذي وعد، كان في كلّ مرّة يُنهض ويقيم.

كم من مرّة عاود بنو إسرائيل، ففعلوا الشرّ في عينَي الربّ. فكانوا يُدفَعون مُساقين من أهوائهم لنير العبوديّة. يستجيرون وليس من سامع. مُدّة الشقاء والألم طالت. كاد الرجاء أن يُفقد. ولكنّ التوبة عادت والتسبيح علا. رأى الناس النعمة بعد أن شعروا بفقدانها كما هي حالنا، عفا الإله، والحنّان بدّد ديجور الظلام، أعطى الأُمناء فرصًا للنجاة.

حكمة الله كانت تعطي المُخلَّصين منفعةً ليقرأوا الأحداث إيجابًا، وكانوا يلاحظون أنّ الله من الجيفة يُخرج عسلًا، ومن الأسد الآكل أكلًا، أي من الموت حياةً.

شمشون الجبّار الذي أتى من رَحِم عاقر، نسَكَ أبواه وصاما، خَمرًا ومُسكرًا لم يشربا ونجسًا لم يأكلا. أعطاهما الربّ ابنًا جبّارًا، كبُر وباركه الربّ. نُذر شمشون للربّ، حافظ على النذور، دافع عن الشعب المعذّب المقَهور. نجح، ربح معارك، صارع من دون هوادة، وكان الربّ يُعينه لأنّه مُتّكل عليه. قتل أسدًا مُهاجمًا بقوّة مَن قوّاه. وعند عودته رأى أنّه «من الآكل خرج أكلٌ ومن الجافي خرجت حلاوةٌ» (قضاة ١٤: ١٤) أي من جوف الأسد قفير نحلٍ يدرُّ عسلًا. فكان رمزًا للمارد الشرّير الذي سُحق، وللشيطان الذي اِنحلَّ. فبالمسيح الجبّار، من جوف الموت خرج عسل القيامة، أي من القبر الضياء. به غدا الضيق والألم مُستثمرين لخلاص الذين يحبّونه. فبقدْر الألم تكون التعزية، والضربة التي تأتي على الظهر من دون أن تقصفه تقوّيه.

الإغراء وللأسف، دبّ في حنايا الجبّار. تزوّج بالخطيئة غريبة، تعبد آلهةً غريبةً. أعطى سرّ قوّته لزانية اسمها «دليلة»، خلَّ بعهده، تغافل عن حفظ وصايا إلهه، توانى في أن يكون نذيرًا للربّ. فما كان من الشرير إلّا أن قوي عليه وقصّ شعر رأسه. هذا نصيب المُتحاورين مع الشيطان. فسقط شمشون وقُلعت عيناه. صار القويّ عبدًا والمُترئّس خادمًا. لكنّ التوبة مكّنته مرّة أخرى من أن يَهدم الهيكل على رأس أعدائه، متسلِّحًا بالنعمة.

لذا، لا بدّ للعاقل بيننا، في هذه الأيام الصياميّة المباركة، من أن يتعلّم أنّ الله لا يُهزأ به، وأنّ الرجاء هو الطريق لتحقيق الوعد. فإن سلّمت نفسك للربّ واثقًا أيّها الإنسان، أنت مُصانٌ رغم الأخطار، ومهما بدا نوع الآلام مريرًا، أنت مُعتقٌ حتّى النهاية. أنت مدفوع رُبّما بالموت، للقيامة مهما ظهر عنف الطبيعة وسوء السياسة. أنت مُمحّص بالنار ولكنّ ذهبك سيلمع. ابن لله أنت. والله لن يترك خاصّته للعصاة، تعاضد وانظر إلى مَن سبقك. اصبرْ، فكما أنّه من الجيفة خرجت حلاوةٌ هكذا من القهر سيخرج البهاء.

آمنْ وتضرّعْ عائدًا إليه قبل أن تعود إلى الأرض. لأنّه من يعطي الأرض كلَّ حياته تعطيه الأرض قبرًا، أمّا من يعطي السماء حياته فتعطيه عرشًا. (القدّيس أفرام السريانيّ).

فلا تَخف أيّها الإنسان أنت لست وحدك، والله لا ولم ولن يتركك، ابقَ معه، الأمور كلّها ضِمن خطّته. الله ليس رجاءنا الأخير، إنّما الوحيد. سلام الله لا يُلغي الضيق بل يسود عليه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من الجيفة عسلٌ