...

العطاء في سفر أعمال الرسل

الضيقة الاقتصاديّة الحاصلة هذه الأيّام في كلّ العالم عمومًا، وفي بلدنا خصوصًا، ليست شيئًا جديدًا في
تاريخ البشريّة. فقد عرف العالم فتراتٍ من هذا النوع مرّات عدّة. وفي زمن الرسل مع بدء انتشار
الكنيسة حدث ضيقٌ شديد أصاب المسكونة وطال أيضًا المسيحيّين. فنقرأ في سفر أعمال الرسل ما يلي:
«وفي تلك الأيّام انحدر أنبياء من أورشليم إلى أنطاكية. وقام واحد منهم اسمه أغابوس، وأشار بالروح
إلى أنّ جوعًا عظيمًا كان عتيدًا أن يصيرَ على جميع المسكونة، الذي صار أيضًا في أيّام كلوديوس
قيصر. فحتم التلاميذ حسبما تيسّر لكلّ منهم أن يرسل كلّ واحد شيئًا، خدمة إلى الإخوة الساكنين في
اليهوديّة. ففعلوا ذلك مرسلين إلى المشايخ بيد برنابا وشاول. (أعمال ١١: ٢٧-٣٠).
ما ينبّهنا إليه خبرُ لوقا الإنجيليّ (كاتب أعمال الرسل) الوارد أعلاه، أنّ الجوع كان سيقبل ولم يكن بعد
قد أقبل. فماذا فعل الرسل؟ بكلّ بساطة تحضّروا للأزمة المقبلة. لهذا نقرأ «فحتم التلاميذ حسبما تيسر
لكلّ منهم أن يرسل كلّ واحد شيئًا، خدمة إلى الإخوة الساكنين في اليهوديّة». أودّ هنا أن أشدّد على
نقطتين في منتهى الأهمّيّة.
النقطة الأولى: يجب على الإطلاق عدم فهم هذا «التحضير» على أّنّه شيءٌ جديد في حياة الكنيسة، أي
وكأنّ الكنيسة الآن وبسبب الأزمة الطارئة عليها أن ترسل وتساعد المحتاجين. هذا فهمٌ خاطئ يشوّه
الحياة المسيحيّة. فالعطاء هو أمرٌ مستمرٌ في كنيسة يسوع، بضيقة أو بدونها. وينقل إلينا سفر الأعمال أنّ
الرسول بولس يذكّر سامعيه بتعليم الربّ: «في كلّ شيء أريتكم أنّه هكذا ينبغي أنّكم تتعبون وتعضدون
الضعفاء، متذكّرين كلمات الربّ يسوع حين قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» (أعمال ٢٠: ٣٥).
لم يدوّن الإنجيليّون الأربعة هذه العبارة العميقة التي تفوّه بها الربّ يسوع أثناء عيشه بالجسد على
الأرض، ولكن ذكرها القدّيس بولس. أهمّيّة ذكر بولس لقول الربّ يكمن في سياق حياته. فبولس أو
شاول الطرسوسيّ كان قبلًا يضطهد الكنيسة، وبعد اهتدائه إلى وجه يسوع، الإله الحقيقيّ، اختبر
احتضان الإخوة المسيحيّين له. وتاليًا هو ينقل خبرته مع المؤمنين. وتذكيره الإخوة بقول الربّ «مغبوط
هو العطاء أكثر من الأخذ» ليس سوى صدى لِما اختبره في الكنيسة الأولى. ولوقا الإنجيليّ عندما كتب
سفرَ أعمال الرسل، شهد لهذا الأمر أيضًا وأرسى بذلك المبدأ الأساس لعيش الكنيسة، أو كيف يجب أن
تكون الكنيسة كما أرادها الربّ. فنقرأ في الإصحاح الثاني من كتاب أعمال الرسل، أي مباشرةً بعد
حلول الروح القدس على التلاميذ وتأسيس الكنيسة: «وجميع الذين آمنوا كانوا معًا، وكان عندهم كلُّ
شيءٍ مشتركًا. والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع، كما يكونُ لكلّ واحدٍ احتياجٌ»
(أعمال الرسل ٢: ٤٤-٤٥). 
النقطة الثانية: يجب ألّا نفهم عبارة «حسبما تيسّر لكلّ منهم أن يرسل كلّ واحد شيئًا» بمعنى أنّ الرسل
أرسلوا بعضًا ممّا يملكون إلى الإخوة. كلّا. الرسل أرسلوا كلّ ما يملكون. فهم أوّلًا عاينوا الربّ كيف

يعطي مجّانًا وهكذا استمرّوا هم أيضًا. فالعطاء لم يكن اختراع الرسل بل نهج حياةٍ بدأوها مع الربّ.
بكلام آخر العطاء هو انعكاس لما فعله المسيح للبشريّة. والمميّز جدًّا في ما ذكره لوقا هو عبارة «شيء
مشترك».
لا يذكر النصّ أنّ الرسل فرضوا هذا الأمر، ومن المؤكّد أنّهم لم يفرضوا ذلك. هذا العطاء الكلّيّ لا
يمكن أن يكون فريضة. فالعطاء يخرج من القلب. هو ثمرة للحبّ الإلهيّ الذي اختبره المؤمنون ومسّ
قلوبهم. فبادلوا هذا العطاء الإلهيّ بالتوبة وبالعطاء المادّيّ. وهم أدركوا أنّ ما يمتلكون قد يحول بينهم
وبين محبّتهم لإخوتهم. فكما شاء إلهُنا أن «يبيع» مُلكه لينزل إلى إخوته البشر ويشاركهم فقرهم، هكذا
سار المسيحيّون الأوائل وباعوا ما لهم ليشاركوا الأخ الفقير والمحتاج. فمن يده لا تعرف العطاء، قلبه لا
يعرف الله. فكيف لهم أن يتعلّقوا بالأرض بعد أن تذوّقوا طعم الروح القدس.
ولوقا يورد أيضًا «كان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحدٌ يقول إنّ شيئًا من
أمواله له، بل كان عندهم كلُّ شيء مشتركًا. وبقوّةٍ عظيمةٍ كان الرسل يؤدّون الشهادة بقيامة الربّ
يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم، إذ لم يكن فيهم أحد محتاجًا، لأنّ كلّ الذين كانوا أصحاب
حقول أو بيوت كانوا يبيعونها، ويأتون بأثمان المبيعات، ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزّع على
كلّ أحد كما يكون له احتياج. ويوسف الذي دعي من الرسل برنابا، الذي يترجم ابن الوعظ، وهو لاويّ
قبرسيّ الجنس، إذ كان له حقلٌ باعه، وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل». (أعمال ٤: ٣٢-
٣٧).
فلو كان الرسل حينها قد أخفوا شيئًا ممّا يملكونه وما وزّعوه لأصابهم ما أصاب حنانيا وزوجته سفيرة
الوارد ذكرهما في أعمال الرسل: «ورجل اسمه حنانيا، وامراته سفيرة، باع مُلكًا واختلس من الثمن،
وامرأته لها خبر ذلك، وأتى بجزء ووضعه عند أرجل الرسل. فقال بطرس: يا حنانيا، لماذا ملأ الشيطان
قلبك لتكذب على الروح القدس وتختلس من ثمن الحقل؟ (أعمال ٥: ١-٣). لذا لا يمكن لتلميذ المسيح أن
يجعل الشيطان يدخل قلبه ويخفي أموالًا يحرمها عن الفقراء والمعوزين. فكلّما ازداد حبّ الإنسان للإله
الملك تخلّى عن حبّه «لإله الملكيّة».
المسيحيّون في أعمال الرسل لم ينتظروا «كارثة» أو أزمة معيّنة ليهبّوا للمساعدة. فالإنجيل غيّرهم.
وهم عندما رموا أموالهم عند أقدام الرسل كانوا مُدركين أنّهم يرمونها عند أقدام يسوع، لأنّهم رأوه قائمًا
في وجوههم. فرسول يسوع لا تراه عيونُ الناس لأنّها لا ترى فيه إلّا يسوع. هذه هي كنيسة يسوع
الحقيقيّة، لا تترك أحدًا في عوزٍ ولا تخفي أموالًا، بل تعطي كلّ ما تملك لأنّها في الأساس لا تملك شيئًا،
لأنّ الربّ هو مالكُها. أموال الكنيسة هي أموال الفقير، لأنّ الفقير يسوع. هذا فكر الكنيسة الذي ينتشلنا
من كلّ الأزمات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العطاء في سفر أعمال الرسل