موت يسوع كان فريدًا بكافّة المقاييس. كلّنا يعرف كيف سمعتْ أذناه التعييرات، ورأت عيناه حجود مَن أحسن إليهم، وذاق لسانه المرّ، وعانى جسده اللطمات، واقتبل رأسه إكليل الشوك. هذه كانت علامات تنكيلنا المعنويّ والنفسيّ والجسديّ به. أنقضّت عليه الظلمة بأشكالها، لكنّها لم تدركه، أمّا رئيس هذا العالم فلم يجد ما يمكن أن يتسلّط به عليه (يوحنّا ١: ٥؛ ١٤: ٣٠). بقي منيعًا على كل محاولات تطويعه روحيًّا ودنيويًّا.
مع إشراق نور الفصح، لم يذكر يسوع ممّا سبق سوى ما ترك علامة بادية على جسده، أي آثار المسامير الأربعة التي اخترقت يدَيه ورجلَيه، والحربة التي اخترقت جنبه. هذا كان ما كشفه يسوع لتلاميذه الأحد عشر في ظهوره لهم سواء في غياب توما أم في حضوره (يوحنّا ٢٠: ٢٠؛ ٢٧). كانت هذه علامات قبوله الآلام كلّها بصبر واقتباله الموت طوعًا من أجلنا إلى أن أسلم الروح في يدَي الآب (لوقا ٢٣: ٤٦). بهذه العلامات اخترق التاريخ وقلوبنا بآن، وسمّر بها كلّ ظلمة محيطة بقلوبنا وكلّ ضلال يطارد أفكارنا وكلّ رغبة سامّة تشتّت عزيمتنا.
اللافت في حادثة ظهور يسوع لتلامذيه التي نطالعها في أحد التجديدات هو دور أصبع توما. كان على يسوع أن يحتمل هذا الأصبع الذي يريد تفتيشه، كما نحن نفعل مثله كلّ يوم! فقد وضع توما شرطًا للإيمان بيسوع أن يتفحّص آثار الآلام في جسده، والتي انطبعتْ فيه عميقًا على ما يبدو، ليتأكّد من هويّة الذي ظهر لإخوته في غيابه.
ماذا حصل لـمّا ظهر يسوع ثانية للتلاميذ بحضور توما؟ ها هو توما «يضع إصبعه على الجرح»، كما نقول بالعاميّة. لكن أيّ جرح هو؟ إنّه جرح علاقتنا المجروحة بالربّ. جرح عميق جعلناه في جسده وأتى هو لكي يشفيه فينا. فقد منعتنا أهواؤنا وأنانيّتنا عن رؤية محبّته لنا وعنايته بنا؛ ودفنتنا خطايانا في مجد هذا العالم وهمومه وملذّاته؛ وأسرنا الخوف فأفقدنا السيطرة على أنفسنا وعلى حياتنا. لقد أتى تفتيش توما لآثار المسامير والحربة ليزيل هذا الغشاء عن أبصارنا، ويقيمنا من هذا القبر، ويحرّرنا من هذا الخوف، ويعيد إلينا السيطرة والسيادة على ذواتنا. إنّه الإيمان بيسوع المسيح الذي أحبّنا حتّى الموت، وأعطانا أن نعرف محبّة أبيه وأن نأخذ روحه القدّوس (يوحنّا ٢٠: ٢٢).
منذ أن وضع توما أصبعه في الجرح، فهمنا أن الوجود كلّه بات رهينة القيامة وليس الموت؛ وأنّنا نحن عرضة لأشعّة محبّة الله الدائمة إذا ما شئنا أن نتأمّل في معنى آثار المسامير والحربة في جسد المسيح.
منذ أن وضع توما «الأصبع على الجرح»، أو بالأحرى في الجرح، سمّر توما شكّنا وخوفنا على صليب محبّة الربّ، وترك لنا الإمكانيّة أن نردّد مع يسوع، وهو على الصليب: في يدَيك نستودع حياتنا (لوقا ٢٣: ٤٦).
منذ أن وضع توما أصبعه في الجرح، فتح لنا الباب الذي عبره ندخل ونخرج منه كلّ يوم ونجد مرعى (يوحنّا ١٠: ٩)، أي الإيمان الذي يسمّر الشكّ والخوف على صليب محبّة الربّ، الذي ويجعلنا نقدّم حياتنا وتفاصيلها كافّة إلى الله في الصلاة، وننطلق من بعدها، كخدّام ورسل للمسيح الفادي (يوحنّا ٢٠: ٢١)، في رحاب الوجود التي يرعاها الربّ بعنايته.
منذ أن وضع توما أصبعه في الجرح، فهمنا أنّ آثار الآلام في جسد القريب الذي افتداه المسيح ما هي سوى فرصة معطاة لنا لكي يأتي نور الإيمان بيسوع عليها، فيشفي نفوس أصحابها ويحييها (يوحّنا ٢٠: ٢٣).
هذا كلّه ممكن إن عبرنا الامتحان، وأقصد امتحان تفتيشنا الدائم عن إثباتات عن محبّة الله لنا، أو تساؤلاتنا حول قدرته على افتدائنا، أو الشكّ في حقيقة عنايته بعالمه وبالمخلوق على صورته. فمتى عبرنا هذا الامتحان، تصير صلاتنا وخدمتنا المتفانية نبع فرح للقريب، وبلسمًا في معاناته، ونورًا في حيرته، وعلامة حضور الربّ وسط جحيم الإنسان المعاصر. ساعتها يغبّطنا الربّ بقوله: «طوبى لكم لأنّكم تؤمنون بي كلّ يوم، وعوض أن تفتّشوا يديَّ ورجليَّ وجنبي، تفتّشون جراح القريب لمداواتها بالإيمان بي وبالغفران الذي أمنحه إيّاه وبالخدمة التي تقدّمونها له». هكذا يستحيل جحيمنا فردوسًا بحضور الربّ فيه وقيادته لنا في معارج قيامة الإنسان الذي أحبّه وافتداه وأعطاه أن يعرفه بالروح القدس. المسيح قام!
سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: أعمال الرسل ٥: ١٢-٢٠
في تلك الأيّام جرت على أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة في الشعب، وكانوا كلّهم بنفس واحدة في رواق سليمان، ولم يكن أحد من الآخرين يجترئ على أن يُخالطهم. لكن كان الشعب يُعظّمهم، وكانت جماعات من رجالٍ ونساءٍ ينضمّون بكثرةٍ مؤمنين بالربّ، حتّى إنّ الناس كانوا يخرجون بالمرضى إلى الشوارع ويضعونهم على فرش وأَسرّة، ليقعَ ولو ظلّ بطرس عند اجتيازه على بعض منهم. وكان يجتمع أيضًا إلى أورشليم جمهور المدن التي حولها يحملون مرضى ومعذَّبين من أرواح نجسة، فكانوا يُشفَون جميعهم. فقام رئيس الكهنة وكلّ الذين معه وهم من شيعة الصدّوقيّين وامتلأوا غيرة. فألقوا أيديهم على الرسل وجعلوهم في الحبس العامّ. ففتح ملاكُ الربّ أبواب السجن ليلًا وأخرجهم وقال: امضوا وقفوا في الهيكل، وكلّموا الشعب بجميع كلمات هذه الحياة.
الإنجيل: يوحنّا ٢٠: ١٩-٣١
لمّا كانت عشيّة ذلك اليوم وهو أوّل الأسبوع والأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين خوفًا من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم: السلام لكم. فلمّا قال هذا أراهم يديه وجنبه ففرح التلاميذ حين أبصروا الربّ. وقال لهم ثانية: السلام لكم، كما أَرسلَني الآب كذلك أنا أُرسلكم. ولمّا قال هذا نفخ فيهم وقال: خذوا الروح القدس. مَن غفرتم خطاياهم تُغفر لهم ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسكت. أمّا توما أحد الاثني عشر الذي يقال له التوأم فلم يكن معهم حين جاء يسوع، فقال له التلاميذ الآخرون: إنّنا قد رأينا الربّ. فقال لهم: إن لم أُعاين أثر المسامير في يديه وأَضع إصبعي في أثر المسامير وأَضع يدي في جنبه لا أؤمن. وبعد ثمانية أيّام كان تلاميذه أيضًا داخلًا وتوما معهم، فأتى يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال: السلام لكم. ثمّ قال لتوما: هات إصبعك إلى ههنا وعاين يديّ، وهات يدك وضَعْها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا. أجاب توما وقال له: ربّي وإلهي. قال له يسوع: لأنّك رأيتني آمنت؟ طوبى للذين لم يرَوا وآمنوا. وآيات أُخَر كثيرة صَنَع يسوع لم تُكتب في هذا الكتاب. وأمّا هذه فقد كُتبت لتؤمنوا بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياةٌ باسمه.