اتّخذ يسوع مناسبة عودة التلاميذ السبعين من مهمّتهم ليسلّط الضوء على فرح سرّيّ لديه أراد أن يكون نصيبهم ونصيبنا بآن. إليكم كيفيّة تحقيق هذه الغاية والامتحان الذي يعترض طريق التلميذ خادم الإنجيل.
كان يسوع قد أرسل تلاميذه أمامه ليهيّئوا له طريقه، فعاد هؤلاء إليه وقدّموا له تقريرًا عمّا أنجزوه وقد اعترتهم الدهشة من اقتدارهم على دحر الشيطان: «يا ربّ، حتّى الشياطين تخضع لنا باسمك»، وكان يسوع نفسه شاهدًا على ذلك: «رأيتُ الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء» (لوقا ١٠: ١٧ و١٨). كانت هذه خبرتهم الأولى في معاينة النعمة العاملة فيهم وبهم والتي سبق يسوع ومنحهم إيّاها: «أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيّات والعقارب وكلّ قوّة العدوّ ولا يضرّكم شيء» (لوقا ١٠: ١٩). والحقيقة أنّه كان لهم كلّ الحقّ في أن يغتبطوا ويتهلّلوا، فهم بذلك يسيرون في إثر المعلّم الذي يتكلّم «بسلطان» ويعمل «بسلطان» (لوقا ٤: ٣٢ و٣٦)، وها هو يعطيهم هذا «السلطان».
بعد هذا الاختبار الأوّل، شرح يسوع لتلاميذه الاختبار الحقيقيّ الذي عليهم اجتيازه، والذي من دونه لا قيمة للاختبار الأوّل، مهما اتّسم بآيات «النجاح»، بحال فصلهم عن الغاية منه. فما هو، يا تُرى، المحكّ الحقيقيّ للنجاح بالنسبة إلى يسوع؟ إليكم الوجهة التي يرسمها للتلاميذ: «لا تفرحوا بهذا أنّ الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحريّ أنّ أسماءكم كُتبتْ في السماوات» (لوقا ١٠: ٢٠). لقد وجّههم نحو قبلة كلّ شيء وغايته. فكتابة الاسم في السماء هي تعبير مجازيّ يُراد منه أن نكون حيث يكون يسوع: «حيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي» (يوحنّا ١٢: ٢٦). منذ جلس يسوع عن يمين الآب، بات هذا المكان هو خاصّتنا أيضًا. أَوَليس الآب «أبانا»؟
في هذا السبيل، شقّ يسوع أمام تلاميذه طريق كرازته التي أعلن لنا فيها إرادةَ الآب وعمل بيننا أعماله؛ ورفع الصلاة أمامنا وعلّمنا أن نعمل مثله؛ وأحبّنا حتّى المنتهى وأوصانا بأن نتمثّل بمحبّته لنا؛ وغفر لنا خطايانا ورجانا أن نمنح هذا الغفران لكلّ من أساء إلينا. فالسير في إثر المعلّم على هذا المنوال يصيّر التلميذ إنجيلًا حيًّا بين إخوته وأترابه، بالقول والفعل، ويجعل كرازة يسوع تستمرّ عبر إرساله إيّانا أمامه، جيلًا بعد جيل، كخَيْر رسل يعكسون إرادة الآب ويتمثّلون بـ «شِيَم» الابن. فلا عجب في أن يجعل يسوع هذا التماهي بينه وبيننا: «الذي يسمع منكم يسمع منّي، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني» (لوقا ١٠: ١٦). إنّه التماهي من جهة المسؤوليّة الموكلة إلينا، وأيضًا من جهة «السلطان» الممنوح إلينا و«الهويّة» الرسوليّة التي حمّلنا إيّاها. هكذا يضعنا يسوع على قدم «المساواة» معه، في الأتعاب الرسوليّة والثمار الإلهيّة، إذ يجعلنا شركاءه في المجد والكرامة التي له من الآب.
ربّ قائل: هذا التماهي في المسؤوليّة والكرامة هو ميداليّة ذات وجهَين. فعلى الوجه الثاني من الميداليّة نقرأ تحذيرًا قاسيًا لـمَن يحملون هذه الرتبة الرسوليّة إذا ما أهملوها ولم يلتصقوا حقًّا بيسوع. ساعتها ينطبق على هؤلاء قول يسوع بشأن أنَ مَن يرذله يكون قد رذل الذي أرسله. أمّا على وجه الميداليّة، فنقرأ حقيقة أخرى، معزّية ومنعشة بآن: لسنا وحدنا في مهمّتنا الرسوليّة، فيسوع يوحّد نفسه بنا فيها، إن كنّا معاونين له على قدر طاقتنا وبذلنا لذواتنا وعلى قدر إلتصاقنا به.
حتّى نفهم هذه الحقيقة، يرمينا يسوع في حضن الآب، الذي أسلم نفسه إليه في الكرازة وعلى الصليب. هذا وصلنا في الدعاء الذي رفعه أمام الرسل السبعين في نهاية اجتماعه بهم: «أحمدكَ أيّها الآب، ربّ السماء والأرض، لأنّك أخفيتَ هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيّها الآب، لأن هكذا صارت المسرّة أمامك» (لوقا ١٠: ٢١). إنّها وجهة يسوع منذ خرج من حضن الآب وإلى أن يعود إليه. إليه استعاد كلّ شيء، وإليه يستعيدنا الآن. هذا هو فرحه بنا والذي يريد أن يبقى فرحنا. فهل نحن، بالعمق، فرحون بما يريده يسوع لنا؟ هل لمسنا طبيعة الاختبار الأوّل في خدمتنا (الفرح بالنعمة)، وانتبهنا إلى ضرورة الاختبار الثاني في حياتنا (الجهاد في سبيل خلاصنا)؟ هل الظروف الحاضرة هنا وثمّة قد كشفت لنا وجهَي الميداليّة في حياتنا بحيث نأخذ كلام الربّ لنا نورًا ونارًا بآن، فتنير ثنايا خدمتنا وتحرق الزؤان فينا؟
يا ربّ، كيف لي أن أضمّ صلاتك هذه إليّ؟ كيف لي أن أترك مصافّ «الحكماء والفهماء» الذين تشير إليهم، فأصير من أولئك «الأطفال» الذين اقتبلوا «مسرّة الآب»؟ أعطِني إذًا من هذا التواضع الذي عرفه الرسل فيك وتعلّموه منك، فلا أتيه عنك، ولا أصير مرذولًا أمام عينَيك كلّ مرّة أرذلك فيها وأنا حامل اسمك وأقوم بخدمتك.
+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: كولوسي ٤: ٥-١٨
يا إخوة اسلكوا بحكمة من جهة الذين في الخارج مفتدين الوقت. وليكن كلامكم كلّ حين ذا لُطف مُصلحًا بملح حتّى تعلموا كيف ينبغي لكم أن تجاوبوا كلّ واحد. جميع أحوالي سيُعلمكم بها تيخيكوس الأخ الحبيب والخادم الأمين والعبد معي في الربّ، الذي بعثته إليكم لهذا بعينه ليعرف أحوالكم ويعزّي قلوبكم مع أُنيسيمس الأخ الأمين الحبيب الذي هو منكم. فهما يُعلمانكم بالأحوال ههنا. يسلّم عليكم أَرسترخُس الأسير، ومرقس ابن أخت برنابا الذي أخذتم في حقّه وصايات، فإذا قدم إليكم فاقبلوه، ويسوع المسمّى يسطس الذين هم من أهل الختان، هؤلاء وحدهم معاونيّ في ملكوت الله وهم قد صاروا لي تعزية. يسلّم عليكم أبفراس الذي هو منكم وهو عبد للمسيح مجاهد كلّ حينٍ لأجلكم في الصلوات لكي تثبتوا كاملين تامّين في مشيئة الله كلّها. فإنّي أشهد له بأنّ له غيرةً كثيرةً لأجلكم ولأجل الذين في اللاذقيّة والذين في إيرابوليس. يسلّم عليكم لوقا الطبيب الحبيب وديماس. سلّموا على الإخوة الذين في اللاذقيّة وعلى نمفاس والكنيسة التي في بيته. ومتى تُليت الرسالة عندكم فاعتنوا بأن تُتلى في كنيسـة اللاذقيّين أيضًـا، وأن تتلوا أنتم تلك التي من اللاذقيّة. وقولوا لأرخبّس تأمّل الخدمة التي تسلّمتها في الربّ حتّى تُتمّها. السلام بيدي أنا بولس. اذكروا قيودي. النعمة معكم، آمين.
الإنجيل: لوقا ١٠: ١٦-٢١
قال الربّ لتلاميذه: من سمع منكم فقد سمع منّي. ومن رذلكم فقد رذلني. ومن رذلني فقد رذل الذي أرسلني. فرجع السبعون بفرحٍ قائلين: يا ربّ إنّ الشياطين أيضًـا تخضع لنا باسمك. فقال لهم: إنّي رأيت الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق، وها أنا أعطيكم سلطانّا أن تدوسوا الحيّات والعقارب وقوّة العدوّ كلّها، ولا يضرّكم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا أنّ الأرواح تخضع لكم، بل بالحريّ افرحوا بأنّ أسماءكم كُتبت في السماوات. وفي تلك الساعة تهلّل يسوع بالروح وقال: أَعترفُ لك يا أبتِ ربّ السماء والأرض لأنّك أَخفيت هذه عن الحكماء والعقلاء وكشفتها للأطفال. نعم يا أبتِ لأنّك هكذا ارتضيت.