...

كلمة الراعي من تجربة الاثنَي عشر أمس إلى تجربتنا اليوم

يحار المؤمنون اليوم كيف بإمكانهم أن يعيشوا صلوات الأسبوع العظيم في كنائسنا، وأن يعيّدوا عيد الفصح، بعد أن صارت الإجراءات المتّخذة في غير مكان تضيّق عليهم، أكثر فأكثر، بشأن إمكانيّة ممارسة الحياة الطقسيّة كما اعتدنا أن نعيشها. فهل هذا يعيق نموّنا الروحيّ؟ لمستُ في إنجيل الأحد الخامس من الصوم جوابًا واقعيًّا، لأنّه يصوّب على واقعنا وعلينا، فردًا فردًا.

انظروا، من جهة، كيف كان يسوع يستعدّ لآلامه التي خصّصت الكنيسة أسبوعًا بكامله لنعيشها. انظروا كيف كان يسوع يهيّئ تلاميذه لهذه المسيرة المحتّمة بالتفصيل: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم، فيهزأون به ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم» (مرقس ١٠: ٣٣-٣٤). لم يخفِ عنهم الحقيقة ولم يخِفْهم بها. إنّه واقع يجتازه بكلّ جوارح نفسه، باذلًا نفسه حبًّا.

راقبوا، من جهة أخرى، مواقف التلاميذ. بدءًا، حيرة فخوف كبير يعتمرهم في اتّباعهم يسوع، ليس خوفًا عليه، بل على أنفسهم. يدركون أنّ الصدام مع السلطة الدينيّة في أورشليم بالغ ذروته لا محالة: «كانوا يتحيّرون. وفيما هم يتبعون كانوا يخافون» (مرقس ١٠: ٣٢). ثمّ استفاق اثنان منهم على موقع مميّز لا بدّ من أن يكون من نصيبهما بجانب يسوع، إذ اعتقدا أنّ نتيجة المنازلة في أورشليم ستكون في صالح المعلّم، فرتّبا حساباتهما على هذا الأساس: «يا معلّم، نريد أن تفعل لنا كلّ ما طلبنا… أعطنا أن نجلس الواحد عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك» (مرقس ١٠: ٣٥، ٣٧). وأخيرًا، ظهر موقف ثالث، هو الانفعال الذي تحكّم في بقيّة التلاميذ من مطلب هذَين، انفعال كاد يؤدّي إلى خصومة حقيقيّة بينهم: «لـمّا سمع العشرة ابتدأوا يغتاظون من أجل يعقوب ويوحنّا» (مرقس ١٠: ٤١).

تذهلنا هذه المواقف الثلاثة بواقعيّتها وآنيّتها في تظهير ما يعتمل نفوسنا من مشاعر، أو نتّخذه من مواقف، أو نصرّح به عند مقاربتنا طريقة مواجهة ڤيروس كورونا. حيرة وخوف لدى الجميع؛ ثمّ شطارة في استغلال الظرف لزعامة مبكرة، قبل أوانها، من قبل يعقوب ويوحنّا اللذَين سيصبحان بعد العنصرة من أعمدة الكنيسة في أورشليم (غلاطية ٢: ٩)؛ وأخيرًا، إمكانيّة انفراط وحدة الجماعة في الوقت الذي كان فيه يسوع الأحوج إلى أن يتبعوه جميعًا حتّى النهاية. لقد كشفت هذه المواقف المختلفة استعدادات غريبة وبعيدة كلّ البُعد عمّا سعى يسوع إلى أن يهيّئ تلاميذه من أجله. باختصار، «هو بوادي، وهنّي بوادي»، بحسب ما نقول بالعامّيّة.

هل تشبهنا بشيء هذه المواقف المعلنة أو المضمَرة في أفئدة التلاميذ؟ هل هي مرآة تكشف لنا الواقع الروحيّ والنفسيّ الذي يعتمل نفوسنا اليوم، إكليروسًا ومؤمنين؟ هل يناسبنا أن يصلح الربّ مواقفنا هذه والخلفيّات التي تنطلق منها، كما فعل حينها مع الاثنَي عشر؟ هذه هي كلمته التي عبرت الأجيال والظروف كافّة لتصل إلينا: «أنتم تعلمون أنّ الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وأنّ عظماءهم

يتسلّطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل مَن أراد أن يصير فيكم عظيمًا يكون لكم خادمًا، ومن أراد أن يصير فيكم أوّلًا يكون للجميع عبدًا. لأنّ ابن الانسان أيضًا لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس ١٠: ٤٢-٤٥). يبدو إذًا أنّ مفتاح الغلبة على الخوف والتعظّم والغيظ فيَّ مُعطى لي عندما أعتبر أنّ الآخر وخدمته هما حياتي! فهل نحن، يا تُرى، سالكون هكذا اليوم؟

بات الآن بإمكاننا أن نقارب سؤال الكثيرين: هل يُعقل ألّا نستطيع أن نحتفل بالأسبوع العظيم والفصح هذه السنة؟ بالنسبة إلى يسوع، نحن موجودون في هذا الاحتفال منذ الآن، فقد وقعت علينا القرعة لنكون أبطال الأحداث الخلاصيّة عوضًا من الاثنَي عشر. فنحن منذ اليوم أبطال ما ورد في الإنجيل عن نوم التلاميذ في البستان بينما كان يسوع يصلّي بحرارة، أو عن هربهم عند إلقاء القبض عليه، من دون أن ننسى خيانة يهوذا ونكران بطرس. أَلعلّنا كأحد هؤلاء، في هذا الموقف أو ذاك، بناء على ما نفتكر به أو نقوله أو نتصرّفه اليوم؟ أم نحن أفضل حالًا منهم؟

لا تخفى على يسوع تجاربنا الجديدة، كما لم تخفَ عليه حينها تجارب التلاميذ الاثنَي عشر. في كلتَي الحالتَين، هو يسعى إلى أن يوجّه أبطالها بحكمة نحو طريق الخلاص. فلو أجبناه اليوم، باندفاع وحماس وعنفوان، عن سؤاله ليعقوب ويوحنّا: «أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟»، بالثقة ذاتها التي أجاباه بها هذَان: «نستطيع» (مرقس ١٠: ٣٨، ٣٩)، لكنّا سنسمع أنّ هذا الأمر حاصل في ساعة ما، «هي الآن حاضرة» (يوحنّا ٥: ٢٥)، إن ثبتنا معه. إليك ما قاله لتلميذَيه: «أمّا الكأس التي أشربها أنا فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان» (مرقس ١٠: ٣٩).

لا شكّ في أنّنا نستصعب اليوم أن «نشرب الكأس» الموضوعة أمامنا، وأن «نصطبغ بالصبغة» التي اصطبغ بها المسيح. لربمّا اليوم «الكأس» هي كأس المناولة، ولربّما «الصبغة» هي الحجر الصحّيّ المنزليّ. مهما كان من أمر المعنى المقصود، فإنّنا نلمس تمامًا محبّة يسوع اللامتناهية لنا وإصراره على أن يعطينا الغلبة والحياة الحقّة. لذا يقوّم بنعمته اعوجاج تفكيرنا ويشفي أهواء قلوبنا ويصوّب عزم إرادتنا، إن شئنا. فهو يعطي حياته عنّا ولو هربنا وتركناه وحيدًا، أو أنكرناه بعد أن كنّا أقرب الأقرباء إليه، أو تشاطرنا على بعضنا البعض بحكم تفوّقنا بالغيرة أو الفهم أو الفضيلة، أو خنّاه وسلّمناه «إلى الأمم» لأنّه لم يبدّل ظروفًا صعبة لتصبح على هوانا أو قياسنا.

يرسم لنا يسوع طريق اتّباعه، أي طريق الخروج معه من تجربتنا. وهو بانتظارنا كما فعل مع الاثنَي عشر. أحداث أسبوعنا العظيم قد ابتدأت منذ فترة! هيّا بنا إذًا نسير معه إلى الفصح بثقة واتّضاع وانسحاق وتوبة!

سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: عبرانيّين ٩: ١١-١٤

يا إخوة، إنّ المسيح إذ قد جاء رئيس كهنة للخيرات المستقبليّة فبمَسكن أعظم وأكمل غير مصنوع بأيدٍ ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل الأقداس مرّة واحدة فوجد فداء أبديًّا، لأنّه إن كان دمُ ثيران وتيوس ورماد عِجلةٍ يُرشُّ على المنَجّسين فيُقدّسهم لتطهير الجسد، فكم بالحريّ دمُ المسيح الذي بالروح الأزليّ قرَّب نفسَه لله بلا عيبٍ يُطهّرُ ضمائركم من الأعمال الميتة لتعبدوا الله الحيّ.

 

الإنجيل: مرقس ١٠: ٣٢-٤٥

في ذلك الـزمان أخذ يسوع تلاميذه الاثني عشر وابتدأ يقول لهم ما سيعرض له: هوذا نحن صاعدون إلى أورشليم، وابنُ البشر سيُسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت ويُسلمونه إلى الأُمم فيهزأون به ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم. فدنا إليه يعقوب ويوحنّا ابنا زبدى قائلَين: يا معلّم، نريد أن تصنع لنا مهما طلبنا. فقال لهما: ماذا تريدان أن أصنع لكما؟ قالا له: أَعطنا أن يجلس أحدنا عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك. فقال لهما يسوع: إنّكما لا تعلمان ما تطلبان.

أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أَشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أَصطبغ بها أنا؟ فقالا له: نستطيع. فقال لهما يسوع: أمّا الكأس التي أَشربها فتشربانها وبالصبغة التي أَصطبغ بها فتصطبغان، وأمّا جلوسُكما عن يميني وعن يساري فليس لي أن أُعطيَه إلّا للذين أُعدَّ لهم. فلمّا سمع العشرة ابتدأوا يغضبون على يعقوب ويوحنّا. فدعاهم يسوع وقال لهم: قـد علِمتُم أنّ الذين يُحسَبون رؤساء الأُمم يسودونهم، وعظماءهم يتسلّطون عليهم. وأمّا أنتم فلا يكون فيكم هكذا. ولكن من أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم الأوّل فليكن للجميع عبدًا. فإنّ ابن البشر لم يأت ليُخدَم بل ليَخدم وليبذُل نفسه فِداءً عن كثيرين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

من تجربة الاثنَي عشر أمس إلى تجربتنا اليوم