...

كلمة الراعي مشروع الله المستمرّ في إنارة ليل العالم

 

 

مَن طالع حادثة شفاء الأعمى منذ مولده، وكانت له بصيرة الإيمان، أدرك كيف يشرق نُور المسيح في
ليل العالم، وأدرك أنّ يسوع يعمل باستمرار حتّى يبيد الظلام من قلوبنا. هذا أكّده يسوع بطرائق ثلاث
مختلفة.
ففي تأكيده: «ما دمتُ في العالم فأنا نور العالم» (يوحنّا ٩: ٥)، لا يقصد أنّه كان نور العالم حتّى صعد
إلى السموات، وأنّه من ثمَّ يفقد العالم النور. نعرف أنّ يسوع حاضر بيننا على الدوام، حيث ترك جسده،
أي الكنيسة، حاملةً نوره، بنعمة الروح القدس الفاعل فيها. وهذا ترجمه يسوع عندما أرسل تلاميذه
ليبشّروا المسكونة بنور قيامته وتعليمه وخلاصه. وهذه الخبرة مستمرّة منذ ذلك الحين ونحن معاونون
فيها.
أمّا في تأكيده: «يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل» (يوحنّا ٩: ٤)، فلا يقصد به تعاقب الليالي.
فخبرة الكنيسة عبر السهرانيّات والصلوات الليليّة خير دليل على كيفيّة استفادة أعضاء جسد المسيح من
الجهاد الروحيّ الليليّ، ليخزّنوا في ذواتهم طاقة ويعملوا عمل الله طيلة النهار. لعلّه يحذّرنا هنا من ليل
آخر، حين يفقد الملح طعمه: «الملح جيّد. ولكن إذا صار الملح بلا ملوحة فبماذا تصلحونه؟ ليكنْ لكم في
أنفسكم ملح» (مرقص ٩: ٥٠)، أو حين يُفقَد الإيمان على الأرض: «ولكن متى جاء ابن الإنسان أَلعلّه
يجد الإيمان على الأرض؟» (لوقا ١٨: ٨). فالمقصود بالملح هو التمييز الذي يجب أن يواكب كلّ عمل
ليكون على حسب قلب الله، وأن يكون عملنا مبنيًّا على أرضيّة الإيمان به ليصل إلى غايته التي حدّدها
يسوع: «فليُضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات»
(متّى ٥: ١٦)! نعم، نور العالم هو أن يأتي الجميع إلى تمجيد الآب الذي أرسل يسوع وأنار به العالم.
حاشى إذًا ألّا يبقى لله شاهد في العالم!
وأخيرًا، في تأكيده الثالث: «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار» (يوحنّا ٩: ٤)، يطرح
علينا يسوع صلب رسالته وأساسها. فهو مرسَل لغاية محدّدة وهي خلاصنا، أي «لتظهر أعمال الله» فينا
(يوحنّا ٩: ٣). فمنذ تجسّده لاح النور وصار نهارًا بعد ليل، ولن تكتمل رسالة يسوع إلّا في مجيئه
الثاني، حينما سيُظهر حقيقة أعمال الله الكائنة فيه. ونحن نعاين عربونه منذ الآن في شهادة القدّيسين عبر
العصور والأجيال.
في حادثة الأعمى، يتّضح لنا أن ما يراه يسوع يختلف عمّا يراه التلاميذ بالعين المجرّدة، وعمّا نراه نحن
في حالنا اليوم أيضًا. أمامنا شهادة الأعمى وقوّة شكيمته غير الجارحة لأحد، بل المنيرة بتدرّجها

وصفائها وحقّانيّتها. فالأعمى ابتدأ بتوصيف الأحداث: «إنسان يُقال له يسوع صنع طينًا وطلى عينَيّ،
وقال لي: اذهبْ إلى بركة سلوام واغتسلْ. فمضيتُ واغتسلتُ فأبصرتُ»؛ ثمّ عبّر عمّا يعتقد بـمَن شفاه:
«إنّه نبيّ»؛ وبعدها تحاشى الدخول في لعبة الحكم عليه وإدانته: «أخاطئ هو؟ لستُ أعلم. إنّـما أعلم
شيئًا واحدًا: أنّي كنتُ أعمى والآن أُبصر»؛ وأخيرًا، فسّر ما جرى على ضوء علاقة يسوع بالله: «نعلم
أنّ الله لا يسمع للخطأة. ولكن إن كان أحد يتّقي الله ويفعل مشيئته، فلهذا يسمع. منذ الدهر لم يُسمع أنّ
أحدًا فتح عينَي مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر على أن يفعل شيئًا» (يوحنّا ٩: ١١، ١٧،
٢٥، ٣١-٣٣). هكذا ظهر نُور عمل الله على أرض الواقع، رغم ليل رفض قبول النُّور والحقيقة، أي
يسوع. هنا يصحّ القول: «وهذه هي الدينونة: أنّ النور قد جاء إلى العالم، وأحبّ الناس الظلمة أكثر من
النور، لأنّ أعمالهم كانت شريرة» (يوحنّا ٣: ١٩).
نشكر الله أنّ مشروع إنارة العالم مستمرّ، رغم ما يتعرّض له من تصدٍّ ورفض ومحاربة. هوذا الله يعمل
عبر العميان الكثيرين، على مرّ العصور، الذين تعلّموا أن يبصروه ويؤمنوا به ويسجدوا له ويشهدوا له،
على مثال الأعمى منذ مولده (يوحنّا ٩: ٣٧-٣٨). هذا المشروع مطروح علينا، وهو لا يحتاج إلى
مناقصة ليرسي على فلان دون غيره، فالأمر ليس منافسة أو احتكارًا أو بطولة، بل خدمة متواضعة
ترفع عن العالم أتعابه ليرتاح في نور المسيح ويُقبل إلى خدمته. مشروع إنارة العالم يطال الكلّ،
خصوصًا الذين فقدوا أيّة إمكانيّة للرؤية. إليكم كيف أشار يسوع إلى مَن كانوا في زمانه من عداد فاقدي
المقلتَين: «إنّ العشّارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله» (متّى ٢١: ٣١). إنّها أجمل بشرى سطّرها
هؤلاء المحرومون من النور بإقبالهم إلى النور. فلا نستكننّ إلى وضعنا إن ظننّا أنّنا من أهل البرّ، ولا
نيأسنَّ إن كنّا خطأة، فنور المسيح ينير هؤلاء وأولئك سواسيّة ليصلوا إلى النور. هلّا أقبلنا إليه معًا
لنكون «نور العالم» (متّى ٥: ١٤)؟

سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
 

الرسالة: أعمال الرسل ١٦: ١٦-٣٤
في تلك الأيّام، فيما نحن الرسل منطلقون إلى الصلاة، استقبلتْنا جاريةٌ بها روح عرافة، وكانت تُكسِب
مواليها كسبًا جزيلًا بعرافتها. فطفقت تمشي في إثر بولس وإثرنا وتصيح قائلة: هؤلاء الرجال هم عبيدُ
الله العليّ وهم يُبشّرونكم بطريق الخلاص. وصنعتْ ذلك أيّامًا كثيرة، فتضجّر بولس والتفت إلى الروح
وقال: إنّي آمرُكَ باسم يسوع المسيح أن تخرج منها، فخرج في تلك الساعة. فلمّا رأى مواليها أنّه قد
خرج رجاء مكسبهم قبضوا على بولس وسيلا وجرّوهما إلى السوق عند الحُكّام، وقدّموهما إلى الولاة
قائلين: إنّ هذين الرجُلين يُبلبلان مدينتنا وهما يهوديّان، ويُناديان بعادات لا يجوز لنا قبولها ولا العمل بها
إذ نحن رومانيّون. فقام عليهما الجمع معًا ومزّق الولاةُ ثيابهما وأمروا بأن يُضربا بالعصيّ. ولـمّا
أَثخنوهما بالجراح أَلقوهما في السجن وأَوصَوا السجّان بأن يحرسهما بضبط. وهو إذ أُوصي بمثل تلك
الوصيّة ألقاهما في السجن الداخليّ وضبط أرجلهما في المقطرة. وعند نصف الليل كان بولس وسيلا
يُصلّيان ويسبّحان الله والمحبوسون يسمعونهما، فحدثت بغتة زلزلة عظيمة حتّى تزعزعت أُسس السجن،
فانفتحت في الحال الأبواب كلّها وانفكَّت قيود الجميع. فلمّا استيقظ السجّان ورأى أبواب السجن أنّها
مفتوحة استلّ السيف وهمَّ أن يقتل نفسه لظنّه أنّ المحبوسين قد هربوا. فناداه بولس بصوت عالٍ قائلاً: لا
تعمل بنفسك سوءًا فإنّا جميعنا ههنا. فطلب مصباحًا ووثب إلى داخل وخرَّ لبولس وسيلا وهو مرتعد. ثمّ
خرج بهما وقال: يا سيديّ، ماذا ينبغي لي أن أَصنع لكي أَخْلُص؟ فقالا: آمنْ بالربّ يسوع المسيح
فتخلُص أنت وأهل بيتك. وكلّماه هو وجميع من في بيته بكلمة الربّ. فأخذهما في تلك الساعة من الليل
وغسل جراحهما واعتمد من وقته هو وذووه أجمعون. ثمّ أَصعدهما إلى بيته وقدّم لهما مائدة وابتهج مع
جميع أهل بيته إذ كان قد آمن بالله.
 
الإنجيل: يوحنّا ٩: ١-٣٨

في ذلك الزمان فيما يسوع مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ مولده. فسأله تلاميذه قائلين: يا ربّ، مـن أخطأ
أهذا أم أبواه حتّى وُلد أعمى؟ أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه. ينبغي لي
أن أَعمل أعمال الذي أَرسلني ما دام نهارٌ، يأتي ليل حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل. ما دمتُ في العالم فأنا
نور العالم. قال هذا وتفل على الأرض وصنع من تفلته طينا وطلى بالطين عينَي الأعمى وقال له: اذهبْ
واغتسلْ في بركة سِلوام (الذي تفسيره المرسَل). فمضى واغتسل وعاد بصيرًا. فالجيران والذين كانوا
يرونه من قبل أنّه كان أعمى قالوا: أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي؟ فقال بعضهم: هذا هو،
وآخرون قالوا: إنّه يشبهه. وأمّا هو فكان يقول: إنّي أنا هو. فقالوا له: كيف انفتحتْ عيناك؟ أجاب ذاك
وقال: إنسان يُقال له يسوع صنع طينًا وطلى عينيّ، وقال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل، فمضيتُ
واغتسلتُ فأبصرتُ. فقالوا له: أين ذاك؟ فقال لهم: لا أَعلم. فأَتوا به، أي بالذي كان قبلًا أعمى، إلى
الفرّيسيّين. وكان حين صنع يسوع الطين وفتح عينيه يوم سبت. فسأله الفرّيسيّون أيضًا كيف أبصر،
فقال لهم: جعل على عينيّ طينًا ثمّ اغتسلتُ فأنا الآن أُبصر. فقال قوم من الفرّيسيّين: هذا الإنسان ليس
من الله لأنّه لا يحفظ السبت. آخرون قالوا: كيف يقدر إنسان خاطئ على أن يعمل مثل هذه الآيات؟ فوقع
بينهم شقاق. فقالوا أيضًا للأعمى: ماذا تقول أنت عنه من حيث إنّه فتح عينيك؟ فقال: إنّه نبيّ. ولم يصدّق
اليهود عنه أنّه كان أعمى فأَبصر حتّى دعَوا أبوَي الذي أَبصر وسألوهما قائلين: أهذا هو ابنُكما الذي
تقولان إنّه وُلد أعمى، فكيف أبصر الآن؟ أجابهم أبواه وقالا: نحن نعلم أنّ هذا ولدنا وأنّه وُلد أعمى، وأمّا
كيف أَبصرَ الآن فلا نعلم، أو من فتح عينيه فنحن لا نعلم، هو كامل السنّ فاسألوه فهـو يتكلّم عن نفسه.
قال أبواه هذا لأنّهما كانا يخافان من اليهود لأنّ اليهود كانوا قد تعاهدوا أنّه إن اعترف أحد بأنّه المسيح
يُخرَج من المجمع. فلذلك قال أبواه هو كامل السنّ فاسألوه. فدَعَوا ثانيةً الإنسان الذي كان أعمى وقالوا
له: أَعطِ مجدًا لله، فإنّا نَعلم أنّ هذا الإنسان خاطئ. فأجاب ذاك وقال: أخاطئ هو لا أعلم، إنّما أَعلم شيئًا
واحدًا أنّي كنتُ أعمى والآن أنا أُبصر. فقالوا له أيضًا: ماذا صنع بك؟ كيف فتح عينيك؟ أجابهم قد
أَخبرتكم فلم تسمعوا، فماذا تريدون أن تسمعوا أيضًا؟ ألعلّكم أنتم أيضًا تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟
فشتموه وقالوا له: أنت تلميذُ ذاك. وأمّا نحن فإنّا تلاميذُ موسى ونحن نَعلم أنّ الله قد كلّم موسى. فأمّا هذا
فلا نعلم من أين هو. أجاب الرجل وقال لهم: إنّ في هذا عَجَبًا أنّكم ما تعلمون من أين هو وقد فتح عينيّ،
ونحن نعـلم أنّ الله لا يَسمع للخطأة، ولكن إذا أحدٌ اتّقى الله وعمل مشيئته فله يستجيب. منذ الدهر لم
يُسمع أنّ أحدًا فتح عيني مولودٍ أعمى. فلو لم يكن هذا من الله لم يقدر على أن يفعل شيئًا. أجابوه وقالوا
له: إنّك في الخطايا قد وُلدتَ بجملتك. أفأنت تُعلّمنا؟ فأَخرجوه خارجًا. وسمع يسوع أنّهم أخرجوه
خارجًا، فوجده وقال له: أتؤمن أنت بابن الله؟ فأجاب ذاك وقال: فمن هو يا سيّد لأؤمن به؟ فقال له
يسوع: قد رأيتَه، والذي يتكلّم معك هو هو. فقال له: قد آمنتُ يا ربّ، وسجد له.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي
مشروع الله المستمرّ
في إنارة ليل العالم