...

كلمة الراعي قوام التزكية للرسوليّة في القلّة والوفر في المسيح

 

 

أمام حاجات العالم الكثيرة، تعتريك حيرة إذا ما كنتَ مقصّرًا أم لا، سواء تجاه الربّ أم تجاه مَن تخدم. لربّما هذه الحيرة تأخذ منحى الخجل عند مَن لديهم مروءة ونبل عندما يعاينون ذواتهم في فقرها وذواتهم في وفر الربّ، لكنّهم لا يتوقّفون عند هذا الخجل، بل يتّخذونه محرّكًا دافعًا لينطلقوا من جديد في إعطاء ذواتهم. خبرة كهذه هي درس مفصليّ تتخشّع النفس أمامه كلّ مرّة تواجه هذا التساؤل، أو تعيش مثل هذه المراجعة الذاتيّة، أو تخجل من قصورها الشخصيّ والوظيفيّ. هذه هي خلاصة خبرة الرسول بطرس في الصيد العجيب. 

ففي هذه الحادثة، ظهر بطرس فقير الحال والكلام والخبرة، لكنّه بدا جوّاد النفس، نبيل الموقف، نزيه المأرب. لم يضع عائقًا ولا حجّة ولا قناعة أمام طلب يسوع إليه. قدّم القليل الذي لديه وقدّم نفسه كما هي. أعطاه سفينته ليعلّم الجموع منها، وأعطاه ذاته فانطلق بغيرة مضاعفة في الاتّجاه المعاكس تمامًا لما كان ينوي القيام به. فعوض العودة إلى البيت، أعدّ العدّة للانطلاق للصيد من جديد؛ وعوض الاستسلام للتعب الكبير، شدّ أوتار النفس للقيام بما أمر يسوع؛ وعوض أن يتسلّل الاحباط إليه من غياب الغلّة، امتلأ رجاء من جرّاء محاولة جديدة. يبدو أنّه كان حريصًا على الربّ وعلى تلبية طلبه أكثر ممّا كان حريصًا على تزكية أيّ اعتبار آخر، محقّ أو مشروع أو طبيعيّ. هذا الاستعداد زكّاه للرسوليّة!

أَعقب الصيدَ العجيب الذي أصابه بطرس ومَن معه جملةُ مواقف كانت حاسمة في مصيرهم. هذا تجلّى في الضوء المسلّط على بطرس في هذه الحادثة والدور الرئيس الذي لعبه فيه منذ البداية. لقد أدرك بطرس التباين الكبير بين فقر الحال، من جهة، والوفر الحاصل، من جهة أخرى. كان الصيدُ العجيب علامتَه الخارجيّة، بينما كان سجوده أمام الربّ، وبالتحديد «عند ركبتَي يسوع»، واعترافه الكبير الذي قدّمه أمام الجميع، وطلبه إلى يسوع، هو علامته الداخليّة الشخصيّة: «اخرجْ من سفينتي يا ربّ لأنّي رجل خاطئ» (لوقا ٥: ٨).

من أين لبطرس هذا الوعي؟ لقد تجرّأ بطرس أن يبتعد إلى العمق، مرّة عندما طلب إليه يسوع ليُلقوا الشباك من جديد (لوقا ٥: ٤)، ومرّة أخرى عندما أدرك الحقيقة الكامنة في هذا الصيد العجيب، لا كجواب من الربّ على تعب الليل: «يا معّلم، قد تعبنا اللّيل كلّه ولم نأخذ شيئًا»، بل كتحقيق للالتزام الذي قدّمَه بطرس: «على كلمتك أُلقي الشبكة» (لوقا ٥: ٥). فالوفر الخارجيّ، الذي نراه في كثرة السمك والشباك التي تتخرّق والسفينتَين اللّتَين أخذتا في الغرق (لوقا ٥: ٦ و٧)، كان بطاقته للإبحار في العمق، عمقه هو، ولقائه بالمسيح، الصيد الثمين بامتياز. هكذا انفتحت عَيْنا بطرس على فقر حاله وعلى نعمة الله التي لا يستحقّها. لقد أقرّ بأنّه لا يستحقّ مثل هذه العطيّة. هذا الموقف زكّاه للرسوليّة!

لقد احتاج هذا الصيّاد إلى مَن يحفّز كيانه وطاقاته للمضيّ قدمًا، رغم كلّ شيء. كلمة السرّ كانت بسيطة للغاية، لكنّها كافية لتغذّيه إلى الأبد: «لا تخَفْ» (لوقا ٥: ١٠). لقد فعلَت هذه الكلمة فِعلها في نفس بطرس ومَن معه، فكان مفعولها أعجب من الصيد العجيب. لقد أخذوها على عاتقهم كأمر مهمّة أتت تفاصيلها بعد برهة بحيث «تركوا كلّ شيء وتبعوا المسيح» بعد أن سمعوا دعوة يسوع لبطرس: «من الآن تكون تصطاد الناس» (لوقا ٥: ١١ و١٠). هكذا ظهر قوام الدعوة للرسوليّة في الفقر والوفر، في فقر الحال ووفر النعمة.

ماذا يمكننا أن نتبنّى من هذه الحادثة؟ أَهو كامن في الضوء المسلَّط على تعب «اللّيل» كلّه، أم في خيبتنا من فقر حالنا؟ أَهو متمثّل في الاستعداد الذي أبداه بطرس ومَن معه بأن يسمع كلمة الربّ، في تدرّجها من طلب السفينة إلى أمره بالإبحار إلى العمق فالرسوليّة؟ أم هو حاضر في البساطة والنزاهة والصدق والجرأة المناسبة وعدم التلكؤ؟ أَهو قائم في أن نعطي في سبيل الكرازة الإنجيليّة بعضًا ممّا لدينا، أيًّا كان نوعه أو حجمه أو قيمته المعنويّة أو الماديّة، ولكن أن نعطيه من قلبنا، وإن كان على حساب راحتنا وأولويّاتنا؟ أَليست هذه هي الشهادة التي نجدها في سِير القدّيسين الذي أخذوا على عاتقهم، جيلًا بعد جيل، أن يصغوا إلى كلمة الربّ ويعملوا بها حتّى يتنهي أجَلهم؟ فهل نحن اليوم خالي الوفاض بعد ليل تعبْنا فيه، ولكنّ الربّ يريد أن يعطي كنيسته أن تصيب صيدًا عجيبًا؟ هل تؤمن بذلك وتصلّي له وتعمل من أجله؟ هلمَّ إذًا ولنكنْ معًا في هذا السعي!

+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

  

الرسالة: ٢كورنثوس ٦: ١-١٠

يا إخوة، بما أنّا معاونون نطلبُ إليكم أن لا تقبلوا نعمة الله في الباطل لأنّه يقول إنّي في وقتٍ مقبول استَجَبتُ لك وفي يوم خلاصك أعنتُك. فهوذا الآن وقتٌ مقبول، هوذا الآن يومُ خلاص. ولسنا نأتي بمعثرة في شيء لئلا يلحَقَ الخدمَة عيبٌ. بل نُظهر في كلّ شيء أنفسنا كخدّام الله في صبرٍ كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات، في جلدات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام، في طهارة، في معرفة، في طول أناة، في رِفق في الروح القدس، في محبة بلا رياء، في كلمة الحق، في قوة الله بأسلحة البرّ عن اليمين وعن اليسار. بمجدٍ وهوانٍ، بسوء صيتٍ وحُسنه كأنّا مُضِلّون ونحن صادقون، كأنّا مجهولون ونحن معروفون، كأنّا مائتون وها نحن أحياء، كأنّا مؤَدَّبون ولا نُقتَل، كأنّا حزانى ونحن دائمًا فرحون، كأنّا فقراء ونحن نُغني كثيرين، كأنّا لا شيء لنا ونحن نملك كلّ شيء.

 

الإنجيل: لوقا ٥: ١-١١

في ذلك الزمان فيما يسوع واقف عند بحيرة جنيسارت، رأى سفينتين واقفتين عند شاطئ البحيرة وقد انحدر منهما الصيادون يغسلون الشباك. فدخل احدى السفينتين وكانت لسمعان، وسأله ان يتباعد قليلاً عن البَر وجلس يعلّم الجموع من السفينة. ولما فرغ من الكلام قال لسمعان: تَقَدَّمْ إلى العمق وأَلقوا شباككم للصيد. فأجاب سمعان وقال له: يا معلّم إنّا قد تعبنا الليل كلّه ولم نُصب شيئًا، ولكن بكلمتك أُلقي الشبكة. فلما فعلوا ذلك احتازوا من السمك شيئًا كثيرًا حتى تخرّقت شبكتهم. فأشاروا إلى شركائهم في السفينة الاخرى ان يأتوا ويعاونوهم. فأتوا وملأوا السفينتين حتى كادتا تغرقان. فلما رأى ذلك سمعان بطرس، خرّ عند ركبتَي يسوع قائلاً: اخرُجْ يا رب فإني رجل خاطئ، لأن الانذهال اعتراه هو وكل من معه لصيد السمك الذي أصابوه، وكذلك يعقوب ويوحنا ابنا زبدى اللذان كانا رفيقين لسمعان. فقال يسوع لسمعان: لا تخَفْ، فإنك من الآن تكون صائدًا للناس. فلما بلغوا بالسفينتين إلى البَر تركوا كل شيء وتبعوه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

قوام التزكية للرسوليّة
في القلّة والوفر في المسيح