هو إيّاه أدركنا في ظلمتنا، في عطشنا وجوعنا إليه، في غربتنا القسريّة عن هيكله الحجريّ ومائدة عشائه. لكنّه بدا لنا نورًا في هيكلنا اللحميّ؛ فهناك، حيث يجاهد هو «من أجل حياة العالم» (يوحنّا ٦: ٥١)، و«لتكون له حياة أفضل» (يوحنّا ١٠: ١٠)، اجتاز عتبة ما كان يفصله عنّا. فبقدرة محبّته دخل حصونًا منيعة عليه، حصون قلوبنا، فأباد عتمتها وأشرق فيها. أمام مفارقة إقامة خدمة الفصح هذا العام «والأبواب مغلقة» (يوحنّا ٢٠: ٢٦)، بحيث استحال على المؤمنين أن يؤمّوا الكنيسة وأبوابها موصدة، دخل هو إلى حيث نحن أغلقنا الأبواب عليه كثيرًا وتركناه خارجًا، أعني قلوبنا. هناك مدّ يده إلينا، في تلك العتمة، وأقامنا، كما فعل مرّة في صبيحة الفصح عندما أمسك بيدَي آدم وحوّاء وأخرجهما من القبر.
نعم، المسيح قام! إنّها صرخة مَن هو في العتمة وافتقده نور اليد الممدودة إليه! ليست هذه الصرخة تمتمة على شفاهنا، أو نغمة صادرة من حناجرنا، أو نصًّا منوّطًا في كتاب، أو ترنيمة تؤدّيها جوقة متمرّسة. إنّها صرخة نعمته في قلوبنا (غلاطية ٤: ٦). أَليس هذا ما شاءت الكنيسة أن تقدّمه لنا في صبيحة الفصح على لسان الإنجيليّ يوحنّا: «النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (١: ٥)؟ أَوَ ليستْ هذه هي صرخته فينا، يطالبنا بواسطتها أن نطلبه هو أينما كنّا؟ فهو المطالِب بنا لنطالِب به! هكذا لم تقدر ظلمتنا ولا خطيئتنا ولا غربتنا على أن تحجبه أو تبعده عنّا، ولا أن تخفي محبّته وخلاصه وعنايته بنا. ها قد انقشعت الحقيقة أمام ناظرَي قلوبنا وبتنا نطلبها بأكثر إلحاح، بل نطالب بها حقًّا من حقوقنا، وإن كنّا لسنا أهلًا لها.
لنضعْ إذًا الأمور في نصابها. هوذا حقّ الله فينا: «كلّ شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء ممّا كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يوحنّا ١: ٤). فهو مبدأ الحياة ومبدئها، خالقها والمعتني بها. وهو يمدّ الإنسان بالنور ليتعلّم ويتدرّب كيف يتعهّد الحياة كلّها: «كان النور الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسان آتيًا إلى العالم» (يوحنّا ١: ٩). وهو لم يكتفِ بأن أعطانا «الوجود»، بل أتحفنا بـ «حسن الوجود»، أي بكرامة فوق كلّ كرامة: «أمّا كلّ الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يوحنّا ١: ١٢). وضع عُرى علاقة بينه وبيننا لا تنفصم إلّا إذا رفضناها بمحض إرادتنا أو أعرضنا عنها بسلوكنا. هذا ما يذكُره يوحنّا بحسرة ويذكّرنا به: «إلى خاصّته جاء، وخاصّته لم تقبلْه» (١: ١١).
هكذا صنع الإنسانُ الجحيمَ بنفسه لنفسه، إذ تغرّب عن الله وتغرّب عن أخيه الإنسان واستغلّ الوجود بعكس الغاية منه. بتغرّبه عن حقيقة نفسه، صار «أدنى من الوجود» الذي خلقه الله من أجله ويعيش أزمات لا تعدو الأزمة الحاليّة سوى إحدى مظاهر هذا التغرّب. لكنّ إرادة الله الخيّرة دبّرت أمرًا عجيبًا، عمليّة إنقاذ فريدة، لأنّه يحبّ الإنسان حبًّا جمًّا. إليك الدواء والعلاج والحقيقة: «والكلمة صار جسدًا وحلّ
بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًّا» (يوحنّا ١: ١٤). إنّها الأيقونة التي تعكس طبيعة «حسن الوجود». وهذا ما شارك يسوعُ به الإنسانَ الذي يؤمن به.
المعاناة الحاضرة تفتح الباب أمامنا لنعرف عمق محبّة الله وارتباطه بنا، وكيف يسير بالمؤمنين به إلى حسن الوجود، أي «الذين ولدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله» (١: ١٣). هكذا ينسبنا الله إليه ويتبنّانا، مرّة وإلى الأبد. هذه هي نظرته إلينا وهكذا يعرفنا ويعرّف عنّا، إن آمنّا به. هلّا أدركنا إذًا أنّ الشرّ ليس من طبيعته، وأنّنا نغلبه بمحبّته ونعمته أنّى وُجد؟
فرحي أنّنا نسير في طريق العبور إلى «حسن الوجود»، بعد أن أسأنا عيش نعمة «الوجود» فانحدرنا إلى «سوء الوجود». شهادات كثيرة معاصرة تُبرِز كيف أنّ الله ما فتئ يعمل حتّى الآن، في واقعنا الراهن، حتّى يتمّ هذا العبور على صعيد الشخص والجماعة. معاونو الله في هذا العمل ليسوا قلّة. إنّها خميرة صالحة موجودة في عجين هذا العالم ويمكنها أن تهتف مع يوحنّا هتاف الفصح هذا: «من ملئه نحن جميعًا أخذنا، ونعمةً فوق نعمة» (١: ١٦). هؤلاء يقلبون قلقنا إلى رجاء، ومخاضنا إلى ولادة، وانحباسنا إلى انطلاق، وضمورنا إلى غيرة، وأزمتنا الحاضرة إلى فرصة. عسانا نلحق بهم فنعيّد معهم الفصح السرّيّ، أي عبورنا من الموت إلى الحياة في المسيح. المسيح قام!
سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: أعمال الرسل ١: ١-٨
إنّي قد أنشأتُ الكلام الأوّل يا ثاوفيلس في جميع الأمور التي ابتدأ يسوع يعملها ويُعلّم بها، إلى اليوم الذي صعد فيه من بعد أن أوصى بالروح القدس الرسلَ الذين اصطفاهم، الذين أَراهم أيضًا نفسَه حيًّا بعد تألّمه ببراهين كثيرة وهو يتراءى لهم مدّة أربعين يومًا ويُكلّمهم بما يختصّ بملكوت الله. وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم بألاّ تبرحوا من أورشليم بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني، فإنّ يوحنّا عمّد بالماء وأمّا أنتم فستعمَّدون بالروح القدس لا بعد هذه الأيّام بكثير. فسأله المجتمعون قائلين: يا ربّ أفي هذا الزمان تردّ الـمُلْك إلى إسرائيل؟ فقال لهم: ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة أو الأوقات التي جعلها الآب في سلطانه، لكنّكم ستنالون قوّة بحلول الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفي جميع اليهوديّة والسامرة وإلى أقصى الأرض.
الإنجيل: يوحنّا ١: ١-١٧
في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وإلهًا كان الكلمة، هذا كان في البدء عند الله. كلٌّ به كان، وبغيره لم يكن شيءٌ ممّا كوِّن. به كانت الحياة والحياة كانت نور الناس، والنورُ في الظلمة يضيء والظلمة لم تُدركه. كان إنسان مرسَل من الله اسمه يوحنّا. هذا جاء للشهادة ليشهد للنور، لكي يؤمنَ الكلُّ بواسطته. لم يكن هو النور بل كان ليشهد للنور. كان النورُ الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسان آتٍ إلى العالم. في العالم كان، والعالم به كُوِّن، والعالم لم يعرفه. إلى خاصّته أتى وخاصّته لم تقبله، فأمّا كلّ الذين قبِلوه فأَعطاهم سلطانًا أن يكونوا أولادًا لله الذين يؤمنون باسمه، الذين لا من دمٍ ولا من مشيئة لحمٍ ولا من مشيئة رجلٍ لكن من الله وُلدوا. والكلمة صار جسدًا وحلَّ فينا (وقد أبصرْنا مجده مجدَ وحيد من الآب) مملوءًا نعمة وحقًّا. ويوحنّا شهد له وصرخ قائلًا: هذا هو الذي قلتُ عنه إنّ الذي يأتي بعدي صار قبْلي لأنّه مُتقدِّمي، ومن مِلئه نحن كُلّنا أخذنا، ونعمةً عوض نعمة، لأنّ الناموس بموسى أُعطي، وأمّا النعمة والحقّ فبيسوع المسيح حصلا.