...

كلمة الراعي توظيف القنية بين حكمة العالم وحكمة الله

 

 

أن تتذكّر أنّ طريقك على الأرض لا تنتهي بالقبر والموت بل تشكّل فاتحة لما هو أبعد من هنا، أمر يحتاج إلى حكمة تأتيك من الجهة المقابلة لحياتك على الأرض. ولقد منحنا الله هذه الحكمة، أللهمَّ إذا كنّا سالكين بحسب وصاياه. فالعمل بوصيّة الله يكشف لنا كيفيّة التعاطي مع أمور حياتنا على الأرض ويشقّ لنا طريق السماء في الوقت عينه.

لـمّا كانت حياة الإنسان على هذه الأرض حافلة بالتحدّيات، كان لا بدّ من الانتباه إلى تلك التي قد تبعده عن الطريق المؤدّي إلى الحياة الأبديّة. تشكّل القنية تحدّيًا قائمًا أبدًا أمامنا وشرط الإفادة منها هو حسن استخدامنا لها، وهذا يتعلّق بالحكمة التي نعتمدها: أَهي حكمة العالم أم حكمة الله؟ مثل الغنيّ الغبيّ أو الجاهل يساعدنا على التمييز بين هاتَين الحكمتَين وتأثيرهما في هذه الحياة وعلى آخرتنا.

خلاف على ميراث أدّى بيسوع إلى أن يحدّثنا عن غنيّ تحلّى بحكمة أهل هذا العالم، فهو أحسن تدبير شؤون رزقه عندما استبان الموسم كريمًا، وعمد إلى توسيع مستودعاته لتخزين المحصول والاستفادة منها على أمد طويل. ونحن نفهم أنّ هذا الاستثمار يقع في إطار وصيّة الله التي سمعها الإنسان في بدء رواية الخلق، حينما أوصاه الله بتنمية الخليقة التي وضعها بين يدَيه: «أثمروا واكثُروا واملأوا الأرض، وأخضِعوها» (تكوين ١: ٢٨).

لكن هذا الغنيّ نوى في قلبه أن يستأثر بما جناه لحسابه، ويحصر الاستفادة منها به وحده دون سواه، ولعلّه أراد أيضًا الاستقالة من متابعة المجهود الذي تتطلّبه حراثة أرضه، إذا قال في نفسه: «يا نفس، لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكُلِي واشربي وافرحي» (لوقا ١٢: ١٩). لقد اكتفى بالنجاح الذي حقّقه، فعمى بصيرته الرفاه الحاصل وأسكره الرضى عن الذات، فانطوى على نفسه. اختزل حياته بما يمكن أن يشبعه من فرح كاذب واطمئنان واهٍ، وهو النموذج الذي يروّج له مجتمع الاستهلاك عمومًا بيننا كلّ يوم وفي كلّ شيء.

لا شكّ في أنّه من حقّ الإنسان أن يأكل من عرق جبينه، فهذه وصيّة كتابيّة استلمها الإنسان من بعد عصيانه الله في الفردوس: «بعرق وجهك تأكل خبزًا» (تكوين ٣: ١٩). ولا يخطئ المرء أبدًا إذا ما تنعّم بما أنتجته يداه. وإلّا كيف يقيت نفسه وعائلته؟ فهل كان هذا الغنيّ حكيمًا في إدارة ممتلكاته وتنميتها؟ وأين أخطأ حتّى استأهل أن يدعوه الربّ غبيًّا في نهاية المطاف؟ وما هي الحكمة التي يشير بها الربّ على الغنيّ حتّى يستدرك آخرته المشؤومة: «يا غبيّ، هذه الليلة تُطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتَها لـمَن تكون؟» (لوقا ١٢: ٢٠)؟

يضع الربّ حقيقة الموت أمام الغنيّ لتكون ماثلة أمامه وأمامنا، بحيث يمكنه أن يقوّم أفعاله ونيّاته على أساسها، فما يزرعه على الأرض يحصده في السماء. عتب الربّ على الغنيّ وتنبيهه له ليسا موجّهين إلى موضوع الاستثمار بل الاستئثار الذي تبعه. عتبه موجّه بشكل خاصّ إلى عدم استثمار هذه الخيرات في علاقته بالآخرين: «فهذه التي أعددتَها لـمَن تكون؟». 

اكتفى الغنيّ بالاستثمار إلى حدّ التنعّم بالبحبوحة المادّيّة، لكنّه لم ينظر إلى البحبوحة الروحيّة، تلك التي تأتي عندما يضع الخيرات في خطّ شكر الله وخطّ خدمة القريب أيضًا، فيستثمر ما جنته يداه في سبيل القرب من الله وخدمة الإنسان. هذا هو خطّ الوكيل الأمين الذي يضع الربُّ الأرضَ وخيراتها بين يدَيه ليحسن أداء الحساب عن وكالته. أخطأ الغنيّ، وبات غبيًّا، عندما استغيب الله فألغاه من حسبانه كمعطٍ للخيرات، واستبعد القريب الذي عبر محبّته والعلاقة به يمكن للمرء أن يربح السماء. إنّها الحكمة الإلهيّة التي يشير إليها المثل عندما يحسم الربّ مسار هذا الغنيّ بالقول: «هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنيًّا لله» (لوقا ١٢: ٢١).

فالغنى الحقيقيّ ليس هو الغنى المادّيّ، بل ذاك الذي يأتي من رضى الله علينا ووجود نعمته فينا. والحكمة الحقيقيّة هي في كيفيّة استخدام الخيرات، صغيرة أم كبيرة، لاقتناء الغنى الحقيقيّ الذي لا يفنى. فالغنى هو في اقتناء حكمة الله ومحبّته ونعمته على هذه الأرض عبر حسن استثمار كلّ شيء في خدمة العلاقة التي تربطنا بالله وبالقريب. هلّا نشكر للربّ تصويبه مسارنا ونشكر معه باقة الآباء والقدّيسين الذين أعطونا المثال الصالح بما وصل إلينا من شهاداتهم وتعاليمهم؟ ربّي، هبْنا حكمتك في توظيف القنية واستثمار خيراتك في السبيل الأنسب لكلّ منّا ولنا جميعًا بحسب مشيئتك.

+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

 

الرسالة: أفسس ٢: ١٤-٢٢

يا إخوة، إنّ المسيح هو سلامُنا، هو جعل الاثنين واحدًا ونقض في جسده حائط السياج الحاجز أي العداوة، وأبطل ناموس الوصايا في فرائضه ليَخلُقَ الاثنين في نفسه إنسـانًا واحدًا جديدًا بإجرائه السـلام، ويُصالح كليهما في جسد واحدٍ مع الله في الصليب بقتله العداوة في نفسه، فجاء وبشّركم بالسلام، البعيدِينَ منكم والقريبين، لأنَّ به لنا كِلينا التوصُّـلَ إلى الآب في روح واحد. فلستم غرباءَ بعد ونُزلاءَ بل مواطني القدّيسين وأهل بيت الله، وقد بُنيتم على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو يسوع المسيح نفسه، الذي به يُنسّق البنيان كلُّـه فينمو هيكلًا مقدّسًا في الربّ، وفيه أنتم أيضًـا تُبنَوْن معًا مسكنًا لله في الروح.

 

الإنجيل: لوقا ١٢: ١٦-٢١

قال الربّ هذا المثل: إنسان غنيّ أَخصبـت أرضُـه فـفكّر في نفسه قائلًا: ماذا أصنع فإنّه ليس لي موضع أخزن فيه أثماري. ثمّ قال: أَصنع هذا. أهدم أهرائي وأبني أكبر منها وأجمع هناك كلّ غلّاتي وخيراتي. وأقول لنفسي: يا نفس إنّ لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة فاستريحي وكُلي واشربي وافرحي. فقال له الله: يا جاهل، في هذه الليلة تُطلب نفسك منك. فهذه التي أَعددتها لمن تكون؟ فهكذا من يدّخر لنفسه ولا يستغني بالله. ولمّا قال هذا نادى: من له أُذنان للسمع فليسـمع.

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

توظيف القنية
بين حكمة العالم وحكمة الله