أن يدعوك الربّ إلى الخدمة فهذا أمر جليل. هذا نعاينه في دعوته أوّل التلاميذ. زوجان من الإخوة تلقّوا
الدعوة من يسوع لتبديل مهنتهم. فعوضًا من أن يبقوا صيّادي سمك، قصد أن يجعلهم «صيّادي الناس»
(متّى ٤: ١٩). هكذا التحق بيسوع بطرس وأندراوس ثمّ يعقوب ويوحنّا.
أن يلتحق هؤلاء بيسوع فهذا له كلفته. جميعهم تركوا الشباك، بينما ترك الزوج الثاني أباهما أيضًا. ففي
بدء التزامهم معه تركوا الرُبط الطبيعيّة التي تؤلّف عالم الإنسان الراشد. فالرابط المهنيّ والرابط العائليّ
هما من أشدّ الرُبط حيويّة في حياة الإنسان، فبها يحقّق وجوده وهي تعطيه معنى. بالطبع لم يكن
المقصود بهذا التخلّي رذلًا لهذه الرُبط أو تحقيرًا أو تبخيسًا لها، فنحن نعرف من شهادة الإنجيل أنّ
يسوع شفى حماة بطرس لـمّا أتى إلى بيت هذا الأخير (متّى ٨: ١٤-١٥)، وأنّ التلاميذ لم ينقطعوا عن
مزاولة مهنة صيد السمك، كما حصل بعد القيامة (يوحنّا ٢١: ٣). والجدير ذكره أيضًا أنّ يسوع دعا
زوجَين من الإخوة في بدء تكوين جماعة التلاميذ، فهو لم يزدرِ أبدًا هذا الرابط الجسديّ، لكنّه لم ينحصر
فيه.
أن يتّبع المرء يسوع يعني أن يلتزم قضيّته. فما هي يا ترى؟ يعرّفنا عليها متّى الإنجيلي باقتضاب: «كان
يسوع يطوف كلّ الجليل يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مرض وكلّ ضعف في
الشعب» (متّى ٤: ٢٣). يسوع يحمل قضيّة عافية الإنسان وخلاصه على عاتقه. بالطبع يقوم بتطوافه
في الجليل باسم الله أبيه، ويكرز بمحبّته للبشر وعنايته وسيادته، ويقدّم للناس معرفة الحقّ، ويقوّم خُلقهم
وخَلقهم بشفائهم من ضعفهم وعاهاتهم.
فما الدافع إذًا الذي حمل هؤلاء الإخوة إلى قبول دعوة يسوع واتّباعه والتزام قضيّته بمثل هذه الجدّيّة
والتضحية؟ النصّ الإنجيليّ لا يفصح كثيرًا عن دوافعهم. لا بدّ من القول إنّ شأن التلمذة ليس بأمر
غريب في وسطهم الدينيّ اليهوديّ. هو رابط معروف ويشير إليه يسوع في أكثر من مكان: «ما من
تلميذ أفضل من معلّمه» (متّى ١٠: ٢٤)، ويشير به إليهم المحيط الذي يعيشون فيه، وذلك في أكثر من
واقعة إنجيليّة.
ولكن، هل يمكننا أن نستشرف الدافع من سياق حياتهم؟ ألعلّ الدافع كامن في شخصيّة يسوع؟ أم في
نظرته للأمور؟ أم في طريقة تعاطيه مع الناس؟ أم في مضمون رسالته؟ أم في القدرة والسلطان اللّذين
كانا محطّ إعجاب من الجموع؟ أم في الصّفة التي يحملها والتي كانت تتبدّى رويدًا رويدًا؟ أم في الثقة
التي أولاهم إيّاها بدعوته إيّاهم لاتّباعه؟ أم في حماسة لمغامرة جديدة في الحياة؟ لربّما هذه كلّها مجتمعة
تشكّل بذور جواب نمت في وجدان هؤلاء التلاميذ. إنّها بذور تستنهض كرامة الإنسان ونظرته إلى نفسه
وإلى الله وإلى القريب، ويعكسها يسوع بشخصه وحياته، ويترجمها بالقول والفعل في بشارته.
لِـم العودة بنا إذًا إلى هذه البداءة؟ هل تعنينا بشيء اليوم؟ لا شكّ في أنّ السياق الطقسيّ في كنيستنا يجيبنا
عن سؤالنا: نحن في زمن العنصرة وانسكاب الروح على التلاميذ وإرسالهم للبشارة على النحو الذي
يصف به متّى الإنجيليّ عمل يسوع في تطوافه في الجليل. ولقد لمسنا أيضًا ثمار فعل الروح القدس في
القدّيسين الذين عيّدنا لهم الأحد الذي تلا عيد العنصرة. وها نحن الآن موضع اهتمام الكنيسة: فهي تريدنا
أن نشحذ الهمّة، أي الإرادة والشجاعة والقلب، بحيث نسير في إثر المسيح وتلاميذه الأوائل وعبر
العصور. الوقت الآن هو لتجديد تلمذتنا ليسوع والتزامنا قضيّته، فهي قضيّتنا، وتعني بالعمق فرحنا
وخلاصنا وحياتنا.
فهل من ضرورة لتجديد هذه الدعوة؟ إنّه الوقت بامتياز! لقد تعدّدت خياراتنا وانهالت علينا دعوات كثيرة
لا تتناسب ودعوة المسيح إيّانا. بات علينا أن ننتبه إلى كيفيّة تصويب خياراتنا، فهي تعلن، في النهاية،
أيّ إيمان نعيش وأيّة عقيدة نترجم فعلًا. بات المسيحيّ وجلًا أمام الشهادة لفاعليّة الإيمان بالمسيح، لربّما
بفعل ما يعانيه من قنوط وخوف مع ما يرافقهما من قلّة أو ضعف في الإيمان. هذا الواقع يحتاج منّا اليوم
إلى ورشة عمل حقيقيّة تحمل في طيّاتها استنهاضًا للهمم، وتعزيزًا للإيمان الحيّ، وتشديدًا على الرجاء
بعناية الله، وتشميرًا عن السواعد، وتمتينًا للمصالحة الأخويّة، وتطويرًا للتعاضد والتكاتف. ما أحلى إخوة
المسيح وتلاميذه وهم يلبّون دعوته ويتركون خلفهم كلّ ما من شأنه أن يعيق سيرهم خلف المعلّم حتّى
النهاية.
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: رومية ٢: ١٠-١٦
يا إخوة، المجد والكرامة والسلام لكلّ من يفعل الخير، من اليهود أوّلاً، ثمّ من اليونانيّين، لأن ليس عند
الله محاباة للوجوه. فكلّ الذين أخطأوا بدون الناموس فبدون الناموس يهلكون، وكلّ الذين أخطأوا في
الناموس فبالناموس يدانون، لأنّه ليس السامعون للناموس هم أبرار عند الله بل العاملون بالناموس هم
يبرّرون. فإنّ الأمم الذين ليس عندهم الناموس إذا عملوا بالطبيعة بما هو في الناموس فهؤلاء وإن لم
يكن عندهم الناموس فهم ناموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم وضميرهم
شاهد وأفكارهم تشكو أو تحتجّ في ما بينها يوم يدين الله سرائر الناس بحسب إنجيلي بيسوع المسيح.
الإنجيل: متّى ٤: ١٨-٢٣
في ذلك الزمان فيما كان يسوع ماشيًا على شاطئ بحر الجليل رأى أخوين وهما سمعان المدعوّ بطرس
وأندراوس أخوه يلقيان شبكة في البحر (لأنّهما كانا صيّادين). فقال لهما: هلمّ ورائي فأجعلكما صيّادي
الناس. فللوقت تركا الشباك وتبعاه. وجاز مـن هناك فرأى أخوين آخرين وهما يعقوب بن زبدى ويوحنّا
أخوه في سفينة مع أبيهما زبدى يصلحان شباكهما فدعاهما. وللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه. وكان
يسوع يطوف الجليل كلّه يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مرض وكلّ ضعف في
الشعب.
كلمة الراعي
تجديد دعوتنا وتفعيل شهادتنا