محطّات ثلاث تميّز علاقة الإنسان بالله، والذي حجر الزاوية فيها هو الروح القدس. المحطّة الأولى هي
الخلق، حينما خلق الله الإنسان على صورته ونفخ فيه «نسمة حياة فصار آدم نفسًا حيّة» (تكوين ٢: ٧).
هكذا أتى خلق الإنسان مجبولًا منذ البداءة بصلة عميقة مع الله، صلة تشكّل الإطار الطبيعيّ ليحقّق ذاته.
المحطّة الثانية هي عطيّة الروح القدس في العنصرة. إنّها العطيّة المميِّزة للوجود الثاني، تلك التي
تحصل متى وُلد المؤمن في جرن المعموديّة ومُسح بالميرون المقدّس وصار عضوًا في جسد المسيح.
بهذه العطيّة بات بإمكاننا أن نعاين الإنسان الجديد، يسوع المسيح، ونكوّن نفسنا عليه وعلى كلمته. إنّها
سيرورتنا وفق الإيمان بالمسيح.
أمّا المحطّة الثالثة فهي بلوغنا «قامة ملء المسيح» (أفسس ٤: ١٣)، حين يتحقّق الوجود الأوّل بنجاز
الوجود الثاني، حين يصير الإنسان مستودعًا للروح القدس وهيكلًا له على الدوام. «صار آدم، الإنسان
الأوّل، نفسًا حيّة، وآدم الأخير روحًا محييًا» (١كورنثوس ١٥: ٤٥). إنّها صيرورتنا أقنومًا فاعلًا، أي
قدّيسًا وابنًا لله حقًّا. إنّها تسميات ثلاث لعطيّة واحدة: تحقيق ذواتنا باتّحادنا بالله.
في إنجيل أحد جميع القدّيسين، نجد الجواب الإنسانيّ على هذه العطايا الثلاث. فلكلّ عطيّة جوابها في
حياة المؤمن. الجواب عن عطيّة الوجود هو قبولها كبوصلة للحياة، كعيش للصلة بالله، لمرجعيّته وأبوّته.
فعندما يقول يسوع: «كلّ مَن يعترف بي قدّام الناس أعترف أنا أيضًا به قدّام أبي الذي في السماوات»
(متّى ١٠: ٣٢)، فهو يشير إلى القاعدة والمبادئ والمُثُل التي نبني حياتنا عليها، أي «عقيدتنا» التي
نؤمن بها ونعيش بموجبها. جوابنا عن عطيّة الوجود هو في تبنّينا دستور الإيمان كدستور حياة.
أمّا الجواب عن العطيّة الثانية فهو بإعلائها فوق أيّ اعتبار، فوق كلّ شيء. فعندما يعلن يسوع: «مَن
أحبَّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي فلا يستحقّني. ومنَ أحبّ ابنًا او ابنة أكثر منّي فلا يستحقّني. ومَن لا يأخذ
صليبه ويتبعني فلا يستحقّني» (متّى ١٠: ٣٧-٣٨)، فهو يدخلنا في سرّ المحبّة الروحيّة التي تشكّل
الأساس والنموذج لكلّ الربط، بدءًا بالربط الجسديّة والعائليّة، وانتهاء بربطنا بالعالم المخلوق وغير
المخلوق. إنّها المحبّة التي رأيناها في يسوع ممدودة لكلّ البشريّة والحريّ بها أن تلهم كلّ الربط وتغذّيها
وتشدّها إلى بُعدها الأخير، إلى محبّة الله من كلّ الكيان ومحبّة القريب كالنفس. هذا ما يقودنا إليه الروح
القدس.
وأمّا الجواب عن العطيّة الثالثة فهو أن نصير «روحانيّين» كما يصفنا بولس الرسول، أي مَن صار
«يَحكُم في كلّ شيء ولا يَحكُم فيه أحد» (١كورنثوس ٢: ١٥)، بعد أن «حمل أثقال» الآخرين وأتمّ
«ناموس المسيح» (غلاطية ٦: ٢). في هؤلاء يصحّ قول يسوع: «تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر
كرسيًّا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (متّى ١٩: ٢٨). وإلى صفة «الروحيّ» تُضاف صفة
أخرى وهي «الوارث»، والتي هي تتويج للأولى، فنصير «ورثة الله ووارثين مع المسيح» (رومية ٨:
١٧). بهذا المعنى نفهم قول الربّ: «كلّ مَن ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًّا أو امرأة أو
أولادًا أو حقولًا من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبديّة» (متّى ١٩: ٢٩). هذا تنجزه
المحبّة الروحيّة في النفوس كما هو أيضًا إنجاز الروح القدس فينا.
هل هذا الطريق، من الوجود إلى حسن الوجود فإلى كمال الوجود، الذي يرسمه الإنجيل، مضمون
للجميع؟ الجواب نجده في التذكار الذي وضعته الكنيسة اليوم. إنّه تذكار جميع القدّيسين. فهؤلاء جعلوا
من الوجود الأوّل مكانًا لعيش الوجود الثاني، فاتّسع كيان كلّ واحد منهم حتّى حوى في ذاته الله وكلّ
الإنسان، بفعل المحبّة الروحيّة التي اقتناها فيه وعاشها. هكذا جسّدوا القول: «الذي يزرعه الإنسان إيّاه
يحصد أيضًا» (غلاطية ٦: ٧).
أمّا خاتمة الإنجيل: «ولكن، كثيرون أوّلون يكونون آخِرين، وآخِرون أوّلين» (متّى ١٩: ٣٠)، فتخاطب
مقاربتنا لهذه المسيرة والصيرورة وتضعها كلّها في يد الله، فهي تفتح كوّة يدخل منها إلى رحاب القداسة
مَن لم نظنّه ممكنًا أن يحتلّ المراتب الأولى، بينما تلفظ خارجًا مَن ظنّ نفسه أمينًا على العطيّة لكنّه لم
يثمّنها حقًّا. إذًا الطريق مفتوح في الاتّجاهَين، ويمكن أن ينعكس اتّجاه السير بفعل حرصنا، أو عدم
حرصنا، على عطايا الله بروح الله. هلّا حرصنا على بعضنا البعض حتّى لا يخسر أحدنا المرتبة الأولى
المعدّة له؟ هلّا شكرنا القدّيسين لأنّهم لا ينفكّون يعينون ضعفنا؟ هلّا طلبنا نعمة الروح القدس باتّضاع
وانسحاق لينير دربنا الشخصيّ والجماعيّ على السواء؟
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: عبرانيّين ١١: ٣٣-٤٠، ١٢: ١-٢
يا إخوة إنّ القدّيسين أجمعين بالإيمان قهروا الممالك وعملوا البرّ ونالوا المواعد وسدّوا أفواه الأسود،
وأطفأوا حدّة النار ونجوا من حدّ السيف وتقوّوا من ضعف وصاروا أشدّاء في الحرب وكسروا
معسكرات الأجانب، وأخذت نساء أمواتهن بالقيامة، وعُذّب آخرون بتوتير الأعضاء والضرب، ولم
يقبلوا بالنجاة ليحصلوا على قيامة أفضل، وآخرون ذاقوا الهزء والجلد والقيود أيضًا والسجن، ورُجموا
ونُشروا وامتُحنوا وماتوا بحدّ السيف، وساحوا في جلود غنم ومعزٍ وهم مُعوَزون مُضايَقون مَجهودون،
ولم يكن العالم مستحقًّا لهم، فكانوا تائهين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض. فهؤلاء كلّهم،
مشهودًا لهم بالإيمان، لم ينالوا الموعد لأنّ الله سبق فنظر لنا شيئًا أفضل أن لا يَكْمُلوا بدوننا. فنحن أيضًا
إذ يُحدِقُ بنا مثلُ هذه السحابة من الشهود فلنُلْقِ عنّا كلّ ثقلٍ والخطيئةَ المحيطةَ بسهولة بنا، ولنُسابق
بالصبر في الجهاد الذي أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع.
الإنجيل: متّى ١٠: ٣٢-٣٣، ٣٧-٣٨ و١٩: ٢٧-٣٠
قال الربّ لتلاميذه: كلّ من يعترف بي قدّام الناس أَعترف أنا به قدّام أبي الذي في السماوات. ومن
يُنكرني قدّام الناس أُنكره أنا قدّام أبي الذي في السماوات. من أحبَّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي فلا يستحقّني،
ومن أَحبّ ابنًا أو بنتًا أكثر منّي فلا يستحقّني. ومَن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقّني. فأجاب بطرس
وقال له: هوذا نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع: الحقّ أقول لكم إنّكم أنتم
الذين تبعتموني في جيل التجديد، متى جلس ابنُ البشر على كرسيّ مجده، تجلسون أنتم أيضًا على اثني
عشر كرسيًّا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر. وكلّ من ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًّا أو
امرأة أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبديّة. وكثيرون أَوَّلون يكونون
آخِرين وآخِرون يكونون أوّلين.
كلمة الراعي
الوجود وحسن الوجود وكمال الوجود:
من السيرورة إلى الصيرورة في المسيح