متابع الأحداث بين مساء الجمعة العظيمة وصبيحة القيامة يلمس، في محوريّة مشهديّة القبر، جملة من السمات التي انتصرت على أجواء المراسم الجنائزيّة، وعلى روح الانكسار الظاهريّ لمشروع الملكوت الذي حمل يسوع لواءه في بشارته العلنيّة. فما هي هذه السمات التي شكّلت المركبة التي حملت بشرى القيامة إلينا؟
أولى السمات هي الجسارة. إنّها جسارة في وقت الخوف والموت وتفرّق الجماعة. إنّها جسارة أمام سلطة سياسيّة غاشمة وسلطة دينيّة رافضة. فموت المسيح أتى مفاجئًا لمحيطه القريب، فغابت أيّة تهيئة، رغم أنّ يسوع قد سبق وأنبأهم أكثر من مرّة عن موته في أورشليم. لم يكن هناك قبر جاهزًا، الأمر الذي تطلّب من يوسف الراميّ أن يتجاسر ويطلب من بيلاطس جسد يسوع ويدفنه في قبر جديد (مرقس ١٥: ٤٣-٤٧). لم يكن الطيب متوفّرًا أيضًا، فوجب دفنه على عجل بسبب الضوابط التي تحكم يوم السبت عند اليهود.
أمّا السمة الثانية فظهرت في استعداد يوسف الداخليّ اليقظ. فمن حيث لا ندري، وفي وسط قتام الأحداث وتقهقر الأشخاص، يظهر مَن تحرّك قلبه ووجدانه وشهامته ويصير على مسرح الأحداث اللولب الذي يحرّك كلّ شيء في اتّجاهه المطلوب، ويدير الحالة الحرجة برباطة جأش وحكمة وطمأنينة. تكتشف في هذا الوضع الميؤوس منه مَن يتحلّى برجاء حرّكه لتكون لديه الجسارة التي أسلفنا الحديث عنها: «كان (يوسف) هو أيضًا منتظرًا ملكوت الله» (مرقس ١٥: ٤٣).
والسمة الثالثة لهذا الرجل تكمن في العطاء والعناية. لقد جاد بما لديه وبما كانت الحاجة إليه في ذلك الظرف، مقرونًا بجهد شخصيّ لاستكمال المطلوب. هذا ما سجّله الإنجيل بشأنه: «اشترى كتّانًا فأنزله وكفّنه بالكتّان ووضعه في قبر كان منحوتًا في صخرة ودحرج حجرًا على باب القبر» (مرقس ١٥: ٤٦). وإن كان خادمًا لما يتعلّق بميت، لكنّه كان بلسمًا عندما أظهر تحسّسًا لمعاناة غيره، وشهامة في معاضدة مَن كان لا حول ولا قوّة له. كان العلامة الفارقة المضيئة في ذلك الظلام الدامس.
في المقلب الآخر من الأحداث، ظهرت جرأة النسوة اللواتي قدمنَ صبيحة الأحد ليتسكملن ما فات من الرتبة الجنائزيّة. يزكّي هذه السمةَ لديهنَّ الجوُّ العامّ حينها بسبب وجود الحرّاس على باب القبر، والجوّ الذي لفّ الجماعة الرسوليّة إذ كان التلاميذ مستترين في علّيّة في أورشليم خوفًا من اليهود.
رافقت الجرأة سمة ثانية تمثّلت بالعناية والاهتمام اللذين أبدَينَهما بفعل ما يجمعهنَّ من علاقة وطيدة بيسوع. فقد كنّ حريصات على تتبّع ما جرى يوم الجمعة وأن ينظرنَ بتدقيق «أين وُضع» (مرقس ١٥: ٤٧)، وسعينَ إلى ألّا ينقص شيء من واجب العناية بجسده، وأن يكون تحقيق مرادهنَّ في أوّل سانحة ممكنة، من دون تأخير أو تردّد أو إبطاء (مرقس ١٦: ١-٢).
أمّا السمة الثالثة فقد تجلّت في استمرار روح الخدمة قائمًا فيهنَّ باللهفة والشغف ذاتهما، حتّى في هذه الرتبة الصعبة نفسيًّا عليهنَّ، كما يشعرنا مرقس الإنجيليّ بأسلوبه. فهنَّ كنَّ يخدمنَ يسوع في الظلّ، في الخفاء، من دون أن نسمع لهنَّ صوتًا في الإنجيل، على عكس التلاميذ الذين خدموا في العلن وأمام الملء وصاروا مختبئين.
سمات يوسف الثلاث مع سمات النسوة الثلاث تحوّلت خميرة صالحة صبيحة الفصح، خميرة قادرة، بنعمة الروح القدس، على أن تحمل البشرى التي تفوّه بها الملاك: «لا تندهشنَ! أنتنَّ تطلبنَ يسوع الناصريّ المصلوب. قد قام! ليس هو ههنا. هوذا الموضع الذي وضعوه فيه. لكن اذهبنَ وقلنَ لتلاميذه ولبطرس إنّه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم» (مرقس ١٦: ٦-٧). بالفعل، فعلت الخميرة فعلها في جماعة التلاميذ وتحوّلوا قربانًا شهيًّا قدّموه على مذبح الخدمة والرسوليّة، فانطلقوا من عقالات الخوف واليأس إلى رحاب الكرازة الفرحة بالمسيح.
يحضرني واقعنا اليوم والسؤال عن كيفيّة تطعيمه بالسمات التي وجدناها في إنجيل أحد حاملات الطيب. كلّي رجاء أن يظهر بيننا مؤمنون على مثال يوسف الرامي والنسوة حاملات الطيب. يطالعنا اليوم في ظروفنا الحاليّة عنصر مفاجأة في رعايانا حيث يبرز مَن لم نكن نقيم له حسبانًا ولكن لديه من الجسارة والشهامة والعطاء ما يصحّح خللنا ووجلنا، أو تلهبنا حميّة البعض منّا، خصوصًا أولئك الذين لا نقيم لهم وزنًا لأنّهم قائمون في الخفاء، لكنّهم يرفدون الكنيسة، من قريب أو من بعيد، بالصلاة والخدمة المضحّية والمحبّة. أرجو أن يبارك الربّ خميرة كنيستنا وأن يستخدمها في تهيئة قربان مقبول مرضيّ عند الله، ومفيد لبشارة الإنجيل وخلاص البشر.
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: أعمال الرسل ٦: ١-٧
في تلك الأيّام لمّا تكاثر التلاميذ حدث تذمّر من اليونانيّين على العبرانيّين بأنّ أراملهم كنّ يُهمَلن في الخدمة اليوميّة، فدعا الاثنا عشر جمهور التلاميذ وقالوا: لا يحسُن أن نترك نحن كلمة الله ونخدم الموائد، فانتخبوا أيّها الإخوة منكم سبعة رجال مشهود لهم بالفضل ممتلئين من الروح القدس والحكمة فنُقيمهم على هذه الحاجة، ونواظب نحن على الصلاة وخدمة الكلمة. فحَسُنَ الكلامُ لدى جميع الجمهور، فاختاروا إستفانُس رجلًا ممتلئًا من الإيمان والروح القدس، وفيلبس وبروخورُس ونيكانور وتيمُن وبَرمِناس ونيقولاوس دخيلاً أنطاكيًّا. وأقاموهم أمام الرسل فصلّوا ووضعوا عليهم الأيدي. وكانت كلمة الله تنمو وعـدد التلاميذ يتكاثر في أورشليم جدًّا. وكان جمع كثير من الكهنة يُطيعون الإيمان.
الإنجيل: مرقس ١٥: ٤٣-٤٧ و١٦: ١-٨
في ذلك الزمان جاء يوسف الذي من الرامة، مشيرٌ تقيّ، وكان هو أيضًا منتظرًا ملكوت الله. فاجترأ ودخل على بيلاطس وطلب جسد يسوع. فاستغرب بيلاطس أنّه قد مات هكذا سريعًا، واستدعى قائد المئة وسأله:هل له زمان قد مات؟ ولمّا عرف من القائد، وهب الجسد ليوسف، فاشترى كتّانا وأنزله ولفَّه في الكتان ووضعه في قبر كان منحوتًا في صخرة، ودحرج حجرًا عـلى باب القبر. وكانت مريمُ المجدليّة ومريمُ أُمّ يوسي تنظران أين وُضع. ولمّا انقضى السبتُ اشترت مريم المجدليّة ومريم أُمّ يعقوب وسالومة حنوطًا ليأتين ويدهنّه. وبكّرن جدًّا في أوّل الأسبوع وأتين القبر وقد طلعت الشمس، وكُنَّ يقُلن في ما بينهن: من يدحرج لنا الحجر عـن باب القبر؟ فتطلّعن فرأين الحجر قد دُحرج لأنّه كان عظيمًا جدًّا. فلمّا دخلن القبر رأين شابًّا جالسًا عن اليمين لابسًا حُلّة بيضاء فانذهلن. فقال لهنّ: لا تنذهلن. أتطلبن يسوع الناصريّ المصلوب؟ قد قام، ليس هو ههنا. هوذا الموضع الذي وضعوه فيه. فاذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنّه يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه كما قال لكم. فخرجن سريعًا وفرَرن من القبر وقد أخذتهنّ الرعدة والدهش، ولم يقُلن لأحد شيئًا لأنهنّ كنّ خائفات.