...

كلمة الراعي الجسر إلى القريب والسلَّم إلى الله

 

 

 

الطريق الضيّق المؤدّي إلى الحياة يعترضه لصوص يحاولون أن يسرقوا منّا بذرة الكلمة الإلهيّة، ويبعدونا عن الإيمان بالله وصنع المشيئة الإلهيّة. فالإيمان المسيحيّ يقترن بعيش ما علّمنا الربّ إيّاه في صلاة الأبانا: «لتكنْ مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض» (لوقا ١١: ٢). وتحقيق هذه المشيئة في واقعنا اليوميّ أمر يحتّم علينا الحرص على أسس إيماننا والتزامنا أن نعيش بمقتضاها.

عبّر الناموسيّ عن جوهر الكشف الإلهيّ في العهد القديم حين سطّر، بطريقة لا لبس فيها، معنى المحبّة التي نحن مدعوّون إلى أن نعيشها مع الله ومع القريب: «تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك ومن كلّ فكرك وقريبك مثل نفسك» (لوقا ١٠: ٢٧). إنّها محبّة تستدعي منّا أن نعطي أنفسنا كلّيًّا، بلا حساب، على شاكلة المحبّة التي واجهنا بها يسوع وأوصانا بأن نقتنيها.

أن تحبّ الله من كلّ الكيان وأن تحبّ قريبك كنفسك يحتاجان منّا أقصى الجهود، ويتطلّبان درجة كبيرة من نكران الذات والتضحية، لربّما يعفي المؤمن نفسه منها لأنّه أسهل عليه أن يمشي على هواه. لذا كان لا بدّ من تطويع هوانا ليصير على نفس «موجة» مشيئة الله. فكلّ مسعى في هذا الاتّجاه يجعلنا أقرب إلى الله وإلى القريب، ونفهم الداعي من مثل السامريّ الصالح أو الشفوق، كجواب من يسوع عن سؤال الناموسيّ: «يا معلّم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟» (لوقا ١٠: ٢٥).

أراد الناموسيّ أن يجرّب يسوع، فيتهرّب، كما نفعل أحيانًا كثيرة أو قليلة، من الإجابة عن السؤال الحسّاس الذي طرحه هو بنفسه وبات مطروحًا علينا لنجيب عنه. تجاوز يسوع القصد المبيّت لدى الناموسيّ وعالج بيت القصيد أي فهمه لقراءة ما يقوله الكتاب وكيفيّة وضعه موضع التنفيذ. فابتدأ يسوع بالمثل يفصّل ما قام به (وما لم يقم به) كلّ من الكاهن واللاويّ اللذَين كانا عابرَين في الطريق التي تعرّض فيها أحد اليهود لاعتداء على أيدي لصوص «عرّوه وجرّحوه وتركوه بين حيّ وميت» (لوقا ١٠: ٣٠-٣١). كانت طريقته ليجرح وعينا لنرى في المرآة العاكسة تصرّفاتنا المماثلة. ولكن هذا يحتاج إلى نموذج يساعدنا على التمثّل به.

كيف إذًا تحبّ قريبك كنفسك؟ الجواب هو أن تعامله كما عامل السامريّ عدوّه المجروح على الطريق. هذا حدث على مرحلتَين. في البدء قدّم له مباشرة العناية الممكنة: «لـمّا رآه تحنّن فتقدّم وضمّد جراحاته وصبّ عليها زيتًا وخمًرا وأركبه على دابّته وأتى به إلى فندق واعتنى به»، ثمّ استدرك ما قد يحتاج إليه في المستقبل القريب حتّى يتعافى: «وفي الغد، لـمّا مضى أخرج دينارَين وأعطاهما لصاحب الفندق وقال له: اعتنِ به ومهما أنفقتَ أكثر فعند رجوعي أوفيك» (لوقا ١٠: ٣٣-٣٥). أبدى كلّ استعداد ليعين هذا الغريب على مواجهة واقعه المفاجئ والأليم من دون تردّد وبلا حسابات جانبيّة أو روح نفعيّة. جلّ الأمر أنّه تصرّف معه كما لو أنّه كان من خاصّته المقرّبين، أو كما قد يشتهي أن يُعامَل هو نفسه في ظرف مماثل.

سعى يسوع عبر تصوير أدقّ التفاصيل إلى أن يرينا كيف يمكن للمرء أن يعبّر عن محبّته العمليّة للآخر، وأن يتجاوز الحواجز التي يمكن أن تشوب العلاقات بين بعضنا البعض، وفتح الباب على مصراعَيه ليعيش المؤمن أخوّته مع أترابه ويقدّم لهم محبّته من دون حساب. وسعى إلى أن يضع الناموسيّ على سكّة أخذ الموقف وعدم التهرب بعد الآن من عيش كلمة الله بسؤاله: «أيّ هؤلاء الثلاثة تُرى صار قريبًا للذي وقع بين اللصوص؟» (لوقا ١٠: ٣٦). هكذا مدّ يسوع جسرًا يصلنا بالآخرين ووضع لنا النظّارات الصحيحة لنتعلّم النظر إلى شجونهم ومعاناتهم وحفّزنا لنلاقيهم بالمحبّة التي عبّر عنها الكتاب.

لم يبقَ في النهاية سوى أن يعطي يسوع الجواب عن السؤال المطروح عليه أصلًا: «ماذا أفعل لأرث الحياة الأبديّة؟»، فشجّع الناموسيّ على سلوك مسلك السامريّ: «اذهبْ أنتَ أيضًا واصنعْ هكذا» (لوقا ١٠: ٣٧)، أي «اصنعْ معه الرحمة»! فصعود السلّم إلى السماء يبدأ بوضع قاعدته على الأرض، ومدّ جسور الرحمة مع قريبنا الذي نراه في واقعنا اليوميّ. فالشركة مع الله ننسجها بخيوط الرحمة والمحبّة مع قريبنا. هناك أمثلة وشهادات عديدة تكشف لنا كيف يجسّد المؤمنون هذا المثل. فهل أتهرّب من السؤال المطروح علينا أبدًا: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟ هلّا انتبهنا إذًا وتشجّعنا وانطلقنا؟

+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

 

الرسالة: أفسس ٢: ٤-١٠

يا إخوة إنّ الله لكونه غنيًّا بالرحمة، ومن أجل كثرة محبّته التي أَحبّنا بها، حين كنّا أمواتًا بالزلّات أحيانًا مع المسيح (فإنّكم بالنعمة مخلَّصون)، وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويّات في المسيح يسوع ليُظهِر في الدهور المستقبَلة فرط غنى نعمته باللطف بنا في المسيح يسوع. فإنّكم بالنعمة مخلّصون بواسطة الإيمان، وذلك ليس منكم إنّما هو عطيّة الله، وليس من الأعمال لئلّا يفتخر أحدٌ لأنّا نحن صُنعُه مخلوقين في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي سبق الله فأعدّها لنسلُك فيها.

 

الإنجيل: لوقا ١٠: ٢٥-٣٧

في ذلك الزمان دنا إلى يسوع ناموسيٌّ وقال مجرّبًا له: يا معلم ماذا أَعمل لأرث الحياة الأبديّة؟ فقال له: ماذا كُتب في الناموس، كيف تَقرأ؟ فأجاب وقال: أَحبب الربَّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك ومن كلّ ذهنك، وقريبَك كنفسك. فقال له: بالصواب أَجبتَ، إعمل هذا فتحيا. فأراد أن يزكّي نفسه فقال ليسوع: ومَن قريبي؟ فعاد يسوع وقال: كان إنسانٌ منحدرًا من أورشليم إلى أريحا، فوقع بين لصوصٍ فعرَّوه وجرَّحوه وتركوه بين حيّ وميت. فاتّفقَ أنّ كاهنًا كان منحدرًا في ذلك الطريق فأبصره وجاز من أمامه. وكذلك لاويٌّ، وأتى إلى المكان فأبصره وجاز من أمامه. ثمّ إنّ سامريًّا مسافرًا مرّ به، فلمّا رآه تحنّن، فدنا إليه وضمّد جراحاته وصبّ عليها زيتًا وخمرًا، وحمله على دابَّته وأتى به إلى فندقٍ واعتنى بأمره. وفي الغد فيما هو خارجٌ أَخرجَ دينارين وأَعطاهما لصاحب الفندق وقال له: اعتنِ بأمره، ومهما تُنفق فوق هذا فأنا أَدفعه لك عند عودتي. فأيُّ هؤلاء الثلاثة تحسب صار قريبًا للذي وقع بين اللصوص؟ قال: الذي صنع إليه الرحمة. فقال له يسوع: امضِ فاصنعْ أنت أيضًا كذلك.

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

الجسر إلى القريب والسلَّم إلى الله