فسحة رجاء وحياة أشرقت في الوقت وبالشكل غير المناسبين في كورة الجدريّين. فلا الوقت ولا الطريقة كانا مناسبين للشياطين ولا لأصحاب قطيع الخنازير، إذ تمّ إشهار عجز الأُوَل في لحظة اقتدارهم، وانكسرت شوكة الآخِرين في غمرة عزّهم وبحبوحتهم. لقد تقاطعت «مصالح» هذَين الطرفَين من حيث الانكسار والخسارة اللذين مُنيا بهما بحيث فضّلا، في الحالة الأولى، الهرب من يسوع، أو مقاطعته وطلبهم إليه أن يرحل عنهم، في الحالة الثانية.
هذه كانت الظلال القاتمة في مشهد شفاء منير، شفاء رجل سكنته «شياطين منذ زمن طويل وكان لا يلبس ثوبًا ولا يقيم في بيت بل في القبور» (لوقا ٨: ٢٧) والذي جرى بالطريقة وفي الوقت المناسبَين. ففي وقت الظلام الدامس أشرق نور ساطع في حياة هذا الرجل، وفي وقت استعباد قاسٍ، لاحت أمامه حرّيّة لم يعرف طعمها، وفي وقت استبعاد عن أترابه، انتظمت العودة إلى حياة طبيعيّة مفعمة بالحياة الجديدة التي انسكبت عليه. أمّا الطريقة فكانت بسيطة للغاية: أمر يسوع الشياطين بالخروج من الرجل فاستأذنوه بمغادرته إلى قطيع الخنازير (لوقا ٨: ٢٩-٣٢). هكذا دخل المسيح إلى حياة هذا الرجل، إلى الأبد!
قراءة الحدث من قبل شهود الحدث لم تكن على مستوى ما جرى، أي على مستوى عمليّة التحرير التي حدثت، حيث يحرّر يسوعُ الإنسانَ من سطوة الشيطان، ويعيده إلى الحياة السويّة مع أترابه، ويضيء عليه بنور الإيمان والرسوليّة الإنجيليّة. فأولى ردود الفعل نطالعها لدى المتضرّرين، أوّلًا لدى الشياطين التي «دخلت في قطيع الخنازير فاندفع من على الجرف واختنق»، وثانيًا لدى الرعاة المسؤولين عن القطيع الذين «هربوا» وتناقلوا الخبر «في المدينة وفي الضياع» (لوقا ٨: ٣٣و ٣٤). إنّها القطيعة، بالموت والهروب، مع الحدث ذاته ومع مدبّره وراعيه.
لافت هو الخوف الذي ضرب ضربته القاضية في النفوس. أوّلًا في نفوس الرعاة الذين هربوا على الفور، ثمّ في أبناء تلك المحلّة الذين «جاؤوا إلى يسوع فوجدوا الإنسان الذي كانت الشياطين قد خرجت منه لابسًا وعاقلًا جالسًا عند قدمَي يسوع فخافوا»، والذين «اعتراهم خوف عظيم» بعد أن تحقّقوا «كيف خلص المجنون» (لوقا ٨: ٣٥ و٣٦ و٣٧). تملّك الخوف الجميع فأجمعوا على الطلب إلى يسوع أن يغادر منطقتهم. هكذا خرج المسيح من حياة هؤلاء، إلى حين!
ربّ قائل: خسر يسوع في تلك المحلّة معركة وذهب منكسرًا. فهل ميزان يسوع هو ميزان ربح وخسارة، أم ميزان حياة وموت، تحرير واستعباد، إيمان وخوف؟ لعمري، لم تنتهِ الحكاية عند هذا الحدّ، إذ لن يبقى النور مخفيًّا حتّى النهاية. ها كلّ شيء قد ابتدأ منذ الآن، وهذا ما دبّره يسوع لخلاص هؤلاء. فالرجل الذي شفاه توسّل إليه أن يرافقه لكن يسوع آثر أن يبقيه في تلك الكورة علامة قائمة بينهم ونورًا هاديًا لهم، مع أمر مهمّة بليغ وبسيط بآن: «ارجعْ إلى بيتك وحدّث بكم صنع الله بك»، الأمر الذي انبرى له الرجل بسكب النفس: «فمضى وهو ينادي في المدينة كلّها بكم صنع به يسوع» (لوقا ٨: ٣٩).
شتّان بين «بشرى» هذا الرجل منذ الآن، و»خبريّة» الرعاة التي ولّت. فمعركة يسوع معنا تتضمّن جولات كثيرة، يوميّة ومستمرّة، حتّى نقلع عن خوفنا وعن استعبادنا للخطيئة والشيطان والشرّ، استعباد لا نلمسه أحيانًا كثيرة لأنّه لربّما تأصّل في النفس والعادات والبيئة ونمط الحياة والتفكير. فالشكر للربّ على عمله مع «المجانين» فيشفيهم من أسر واستعباد ويتركهم بيننا ليوقظونا بدورنا إلى حضوره ونوره وعنايته والبشرى بما صنع. والشكر لهؤلاء الذين يحدّثوننا عـمّا صنع يسوع بهم فيأتون بنا إلى الربّ وإلى الكنيسة من جديد، بعد كلّ انكسار وسقوط وخيبة وقطيعة. والشكر للجماعة التي تأخذ على عاتقها حمل هذا المشعل بين إخوتها وأترابها، فتأتي رعايتها لقطيع الخراف الناطقة طاردة الخوف على أشكاله من نفوسهم، وساكبة فيها نور الإيمان والصلاة والتوبة والخدمة. والشكر للنعمة الإلهيّة التي لا تأنف عن أن تشرق في وسط ظلمة عالمنا وظلمة نفوسنا لتحيي فينا الرجاء الحيّ بالمسيح المخلّص وتدعونا، يومًا بعد يوم، إلى خدمة هذا الخلاص والرجاء بين إخوتنا وأترابنا.
+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)
الرسالة: غلاطية ١: ١١-١٩
يا إخوة، أُعلمكم أنّ الإنجيل الذي بَشّرتُ به ليس بحسب الإنسان لأنّي لم أَتسلّمه وأَتعلّمه من إنسان بل بإعلان يسوع المسيح. فإنّكم قد سمعتم بسيرتي قديمًا في ملّة اليهود أنّي كنتُ أَضطهدُ كنيسة الله بإفراط وأُدمّرها، وأَزيد تقدّمًا في ملّة اليهود على كثيرين من أَترابي في جنسي بكوني أَوفر منهم غيرةً على تقليدات آبائي. فلمّا ارتضى الله الذي أَفرزني من جوف أُمّي ودعاني بنعمته أن يُعلن ابنه فيّ لأُبشّر به بين الأُمم، لساعتي لم أُصغِ إلى لحم ودم، ولا صعدتُ إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقتُ إلى ديار العرب، وبعد ذلك رجعتُ إلى دمشق. ثمّ إنّي بعد ثلاث سنين صعدتُ إلى أورشليم لأَزور بطرس فأقمتُ عنده خمسة عشر يومًا، ولم أرَ غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الربّ.
الإنجيل: لوقا ٨: ٢٧-٣٩
في ذلك الزمان أتى يسوع إلى كورة الجرجسيّين فاستقبله رجل من المدينة به شياطين منذ زمان طويل ولم يكن يلبس ثوبًا ولا يأوي إلى بيت بل إلى القبور. فلمّا رأى يسوعَ صاح وخرّ له بصوت عظيم: ما لي ولك يا يسوع ابن الله العليّ، أطلب إليك ألّا تعذّبني. فإنّه أمرَ الروح النجس بأن يخرج من الإنسان لأنّه كان قد اختطفه منذ زمان طويل وكان يُربَط بسلاسل ويُحبَس بقيود فيقطع الربُط ويُساق من الشيطان إلى البراري فسأله يسوع قائلاً: ما اسمك؟ فقال: لجيون، لأنّ شياطين كثيرين كانوا قد دخلوا فيه. وطلبوا إليه ألّا يأمرهم بالذهاب إلى الهاوية. وكان هناك قطيع خنازير كثيرة ترعى في الجبل. فطلبوا إليه أن يأذن لهم بالدخول إليها فأذن لهم. فخرج الشياطين من الإنسان ودخلوا في الخنازير. فوثب القطيع عن الجرف إلى البحيرة فاختنق. فلمّا رأى الرعاة ما حدث هربوا فأخبروا في المدينة وفي الحقول، فخرجوا ليروا ما حدث وأتوا إلى يسوع، فوجدوا الإنسان الذي خرجت منه الشياطين عند قدمي يسوع لابسًا صحيح العقل فخافوا. وأخبرهم الناظرون أيضًا كيف أُبرئ المجنون. فسأله جميع جمهور كورة الجرجسيّين أن ينصرف عنهم لأنّه اعتراهم خوف عظيم. فدخل السفينة ورجع. فسأله الرجل الذي خرجت منه الشياطين أن يكون معه، فصرفه يسوع قائلاً: ارجع إلى بيتك وحدّثْ بما صنع الله إليك. فذهب وهو ينادي في المدينة كلّها بما صنع إليه يسوع.