...

المؤمن بين سندان الإصغاء ومطرقة التطبيق

 

 

 

في مثل الغنيّ ولعازر حوارات على مستويات مختلفة تخاطبنا في واقعنا ورجائنا. إنّها حوارات تمسّ سلوكنا اليوميّ وتعاطينا مع الكلمة الإلهيّة سواء بالإصغاء أم بكيفيّة تجسيدنا لها مع أترابنا.

الحوار الأوّل جرى على مستوى الحياة اليوميّة حيث تجاور الغنيّ ولعازر ولكن من دون أن يتخاطبا أو يتواجها إطلاقًا. إنّه الحوار الذي كان له أن يحدث بشكل طبيعيّ بداعي التماس الجغرافيّ والحياتيّ. لكنّ شخصيّة الغنيّ واهتماماته ونمط معيشته أجهضته. فبينما كان لعازر مطروحًا «عند باب الغنيّ مضروبًا بالقروح»، كان هذا الأخير «يلبس الأرجوان والبزّ وهو يتنعّم كلّ يوم مترفّهًا» (لوقا ١٦: ٢٠ و١٩). لم يبلغنا صوت لعازر إلّا بفضل شهادة المسيح عنه، وبصورة أخجلتنا، عندما يخبرنا عن حاجته البديهيّة: «كان يشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغنيّ، بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه» (لوقا ١٦: ٢١). إذًا هو حوار مقطوع من جهة واحدة وسيكون له الأثر البارز في تحديد مصير الغنيّ بشكل نهائيّ!

على هذا المستوى، يلفتنا وجود حوار ثانٍ فريد وحقيقيّ، وقد ألمح يسوع إليه بخفر شديد، عندما أخبرنا عن اسم هذا الرجل البائس. فاسم لعازر يعني الله إزري أو الله عوني، الأمر الذي يشير إلى أنّ هذا الرجل قد وضع رجاءه على الله في محنته ومعاناته. لا بدّ من أنّه كان يخاطب الله في الخفاء، في الصلاة، واتّكل عليه. إذًا هو حوار القلب والوجدان المرفوعَين إلى الله والذي سيكون له الأثر الأبرز في تحديد مصير هذا الرجل ومعاينة الثمار الأبديّة التي جناها بفضله!

يدخلنا يسوع إلى صلب المثل عبر الحوار الثالث الذي حصل بعد وفاة شخصيّتَي المثل مع انتقال لعازر إلى مكان الراحة والغنيّ إلى مكان العذاب (لوقا ١٦: ٢٢-٢٣). إنّه الحوار الذي جرى بين الغنيّ وإبراهيم بناء على مبادرة الأوّل، وعلى مرحلتَين. تناولت المرحلة الأولى حاجة الغنيّ إلى تعزية، فقد لمس فداحة واقعه الراهن، وأراد أن يحصل على تعزية بواسطة مَن لم يقدّم هو له أيّة تعزية: «يا أبي إبراهيم، ارحمني وارسلْ لعازر ليبلَّ طرف إصبعه بماء ويبرّد لساني لأنّي معّذب في هذا اللهيب» (لوقا ١٦: ٢٤). فكان على إبراهيم أن يوضح له لماذا آلت أموره إلى هذا الدرك الذي هو فيه: «يا ابني، اذكرْ أنّك استوفيتَ خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزّى وأنتَ تتعذّب» (لوقا ١٦: ٢٥). فالمرء يحصد في الحياة الأخرى ما سبق وزرعه في الحياة الحاضرة. لا يمكنك أن تتوقّع ثمارًا لبذار لم تزرعها أو خلافًا لما قد زرعتَه. فالغنيّ طلب تعزية لم يتعلّم أن يقدّمها في حياته للعازر، ولا هو هيّأ نفسه على الإطلاق لاحتمال الموت والحياة الأخرى، فهو يعش واقعًا نهائيًّا لا رجوع فيه إلى الوراء: «بيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثبتتْ حتّى إنّ الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا» (لوقا ١٦: ٢٦). لقد أدرك الغنيّ، بعد فوات الأوان، هذه الحقيقة، ونرجو ألّا يفوتنا نحن بدورنا. وهذا هو المغزى الأوّل من المثل، في حوار شاءه يسوع من طرفه مع مستمعيه ومعنا بآن!

أمّا المرحلة الثانية من الحوار، فتناولت حاجة الغنيّ إلى أن يجنّب إخوته المصير الذي يعانيه. في هذا السبيل أصرّ على أن يؤدّي لعازار دور الرسول المنقذ تجاه إخوته: «أسألك إذًا يا أبتِ أن ترسله إلى بيت أبي، لأنّ لي خمسة إخوة حتّى يشهد لهم»، لكنّ إبراهيم كان جازمًا هذه المرّة أيضًا، فلدى الإخوة الخمسة مَن يرشدهم «حتّى لا يصلوا إلى مكان العذاب هذا» وذلك بأنّ «عندهم موسى والأنبياء. ليسمعوا منهم» (لوقا ١٦: ٢٧-٢٩). لقد انكشف العطب لدى الغنيّ وإخوته، فهم لا يصغون إلى كلمة الله ولا يعملون بها. وهذا هو المغزى الثاني من المثل، في حوار أطلقه يسوع مع سامعيه ويريد أن يبدأه معنا فيستمرّ من دون انقطاع، حوار يؤتي ثمار البرّ فينا!

لا شكّ في أنّ ما يتوقّعه الغنيّ من جهة تغيير في سلوك إخوته إذا ما ذهب إليهم لعازر يضعنا نحن على المحكّ من بعد أن قام يسوع من بين الأموات، فقد ظنّ أنّه «إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون» (لوقا ١٦: ٣٠). فهل نتوب أم نبقى تحت حكم التحذير الذي أطلقه إبراهيم: «إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء ولا إن قام واحد من الأموات يصدّقون» (لوقا ١٦: ٣١)؟ فالمغزى الأخير من المثل كامن إذًا في درجة إصغائنا إلى الكلمة الإلهيّة ووضعها موضع التطبيق، وذلك قبل فوات الأوان. فهل يمكن للربّ أن يعوّل علينا في ذلك ونتّعظ؟ وهل يمكننا أن نعوّل نحن عليه رغم كلّ شيء فيتمجّد؟ الرجاء كبير والوعد أكيد إن تبنا حقًّا إلى الله، ووضعنا أنفسنا بين سندان الإصغاء إليه ومطرقة تطبيق وصيّته.

+سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

 

 

الرسالة: ١كورنثوس ١٢: ٢٧-٣١ و١٣: ١-٨

يا إخوة أنتم جسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا، وقد وضع الله في الكنيسة أناسًا أوّلًا رسلًا ثانيًا أنبياء ثالثًا معلّمين ثمّ قوّاتٍ ثمّ مواهبَ شفاء فإغاثاتٍ فتدابيرَ فأنواع ألسنةٍ ألعلَّ الجميعَ معلمّون، ألعلّ الجميع صانعو قوّات، ألعل للجميع مواهب شفاء، ألعلَّ الجميع ينطقون بالألسنة، ألعلَّ الجميع يترجمون؟ ولكن تنافسوا في المواهب الفُضلى وأنا أريكم طريقًا أفضل جدًّا. إن كنتُ أنطق بألسنة الناس والملائكة ولم تكن فيّ المحبّة فإنّما أنا نحاسٌ يطنُّ أو صنجٌ يرنُّ. وإن كانت لي النبوءة وكنت أعلم جميع الأسرار والعلمَ كلَّهُ، وإن كان لي الإيمان كلّه حتّى أنقلَ الجبالَ ولم تكن فيّ المحبّة فلست بشيء، وإن أطعمتُ جميع أموالي وأسلمت جسدي لأُحرقَ ولم تكن فيّ المحبّة فلا أنتفعُ شيئًا. المحبّة تتأنّى وترفق، المحبّة لا تحسد، المحبّة لا تتباهى ولا تنتفخ ولا تأتي قباحةً ولا تلتمس ما هو لها ولا تحتدّ ولا تظنّ السوء ولا تفرح بالظلم بل تفرح بالحقّ وتحتمل كلّ شيء وتصدّق كلّ شيء وترجو كلّ شيء وتصبر على كلّ شيء. المحبّة لا تسقط أبدًا.

 

الإنجيل: لوقا ١٦: ١٩-٣١

قال الربّ: كان إنسان يلبس الأُرجوان والبزّ ويتنعّم كلّ يوم تنعّمًا فاخرًا. وكان مسكينٌ اسمه لعازر مطروحًا عند بابه مصابًا بالقروح. وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة الغنيّ، بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه. ثمّ مات المسكين فنقلته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الغنيّ أيضًا فدُفن. فرفع عينيه في الجحيم وهو في العذاب فرأى إبراهيم من بعيدٍ ولعازر في حضنه. فنادى قائلًا: با أبت إبراهيم ارحمني وارسِلْ لعازر ليُغمّس طرف إصبعه في الماء ويبرّد لساني لأنّي معذّب في هذا اللهيب. فقال: إبراهيم: تذكّرْ با ابني أنّك نلت خيراتك في حياتك ولعازر كذلك بلاياه، والآن فهو يتعزّى وأنت تتعذّب. وعلاوةً على هذا كلّه فبيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثبتت حتى إنّ الذين يريدون أن يجتازوا من هنا إليكم لا يستطيعون ولا الذين هناك أن يعبُروا إلينا. فقال: أَسألُك إذًا يا أبتِ أن تُرسله إلى بيت أبي، فإنّ لي خمسة إخوةٍ حتّى يشهد لهم كيلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا. فقال له إبراهيم: إنّ عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم. قال: لا يا أبت إبراهيم، بل اذا مضى إليهم واحدٌ من الأموات يتوبون. فقال له: إن لم يسمعوا من موسى والأنبياء، فإنّهم ولا إن قام واحدٌ من الأموات يُصدّقونه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المؤمن بين سندان الإصغاء
ومطرقة التطبيق