...

هل عرّب فاندايك الأناجيل

كان مفهوم «Sola Scriptura» أي «بالكتاب وحده» أحد أهمّ محاور الدعاية البروتستانتيّة، في سباقها مع الكنيسة الكاثوليكيّة لضمّ مسيحيّي الشرق إليها. فركّزت إرساليّاتها، في البداءة، على وضع الكتاب المقدّس، وبخاصّة الأناجيل، بمتناول الجميع. وذلك في مقابل ما كان متّبعًا من حصرٍ لنُسخِ الكتاب المقدّس بيد الإكليروس عند الكنائس الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة. لم تنتشر بين المتكلّمين باللغة العربيّة نُسَخ الكتاب المقدّس في القرن التاسع عشر لأسباب أُخرى، منها نُدرة الكتب بشكل عامّ بسبب ارتفاع ثمن المخطوطات وغياب الطباعة. وقد يكون السبب، كما اعتقد البعض، انحصار قراءته في خدم الليتورجيا، فعاد لا يستعمل خارجها.

استفاد المرسَلون البروتستانت من هذا الغياب، فعمِلوا على إصدار نُسخة عربيّة مطبوعة للكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد. الدكتور كرنيليوس فاندايك أنهى تعريب العهد الجديد كاملاً في ٢٩ آذار العام ١٨٦٠، وفي يوم الثلاثاء الواقع فيه التاسع والعشرون من آذار العام ١٨٦٥، أُقيم احتفالٌ ضخمٌ لمناسبة اكتمال طباعة آخر صفحات النسخة العربيّة الجديدة للكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد. وروّجوا لها باعتبارها الأكمل والأفضل، وقد عرفت «بالأميركانيّة» أو طبعة «فاندايك». وقالوا إنّ عملهم هذا هو سدٌّ للفراغ الموجود، وإنَّه «يفتح كنوز الأسفار الإلهيّة لأربعين مليون عربيّ. وإنَّهم قاموا بالتعريب مباشرة من اللغتين العبريّة (للعهد القديم) واليونانيّة (للعهد الجديد)، كيلا يضيع المعنى إذا تمّ التعريب من لغات أخرى. ولم يشيروا إلى استعمالهم، في عملهم هذا، أيَّ نصوص عربيّة مطبوعة كانت أو مخطوطة، بل كانوا يستشيرون القواميس وبعض العلماء من «العرب والإفرنج، المسلمين والنصارى، الباباويّين والبروتستانت، في بيروت ودمشق وحلب والقدس ومصر وألمانيا».

في ذلك الوقت، لم يشعر الأرثوذكسيّون بضرورة إخراج ترجمة «أرثوذكسيّة» للكتاب المقدّس، (كما فعل الكاثوليك الذين أصدروا، في العام ١٨٨١، نسخة خاصّة عرفت بـ«اليسوعيّة»)، بل اكتفوا بإخراج طبعة تحتوي فقط ثمانية كتب من العهد القديم أهمل البروتستانتيّون تعريبها لاعتبارها من الكتب القانونيّة الثانية، مع مقدّمة تشرح لماذا يجب أن تبقى هذه الأسفار ضمن الكتاب المقدّس.

ثمّ في العام ١٩٠٣، قام وهبة الله صرّوف بتثبيت «نصّ الترجمة البروتستانتيّة مع تعديلات طفيفة» في تصحيحه كتاب الأناجيل الليتورجيّة الأرثوذكسيّة الذي ما زلنا تستعمله إلى هذا اليوم. وهو، أي صرّوف، إنّما عمل هذا بتواضع علميّ حين وجد أنَّ بعض أجزاء الترجمة الليتورجيّة تعاني «ركاكةً وضعفًا في التركيب». أمّا السبب الرئيس في ذلك، فهو أنَّ الأرثوذكسيّين، المتكلّمين بالعربيّة، لم يشعروا، في ذلك الحين، باختلاف كبير بين الطبعتين. ووجدوا أنَّ ثمَّة قربًا لغويًّا ونحويًّا بين الطبعة البروتستانتيّة والطبعة الليتورجيّة المعروفة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وهي الطبعة التي أنجزها البطريرك أثناسيوس الدبّاس في حلب العام ١٧٠٨، وكانت أولى طبعات الإناجيل الأربعة باللغة العربيّة في الشرق. لأنّ الطبعات السابقة كانت تطبع في مدن أوروبّيّة، وتُرسل إلى بلادنا.

وقد بيّنت دراسة أُجريت في معهد القدّيس يوحنا الدمشقيّ اللاهوتيّ في البلمند، بعد مقابلة عدد من نصوص الطبعتين، أنّ معدّل كلّ التغييرات التي أجراها فريق عمل فاندايك لا تصل، في أحسن

الأحوال، إلى نسبة عشرين بالمئة (٢٠٪) من نصّ الدبّاس، أي أنّ الطبعتين تتشاركان في نسبة ثمانين بالمئة (٨٠٪) من المفردات، وتراكيب الجُمل. وهذا يؤكِّد، أّوّلًا، أنَّ العلاقة بين النصَّين تتخطّى كونهما يُترجِمان أصلاً يونانيًّا واحدًا. ويؤكّد ثانيًا الشعور الأرثوذكسيّ العامّ بأنَّ فريق عمل الترجمة البروتستانتيّة لم يُجرِ ترجمة جديدة كما ادّعى، بل اكتفى بتنقيح لغة نصّ طبعة الدبّاس وتصحيحها، وإجراء تعديلات بسيطة عليها لمطابقة الأصل اليونانيّ، وأيضًا إجراء بعض التعديلات التي تناسب اللاهوت البروتستانتيّ. فقد أوضحت الدراسة أنّ الاختلافات بين الطبعتين جاءت في فئتين لغويّة ولاهوتية. التعديلات اللغويّة كانت إمّا استبدالاً لمفردات عادت غير رائجة، وإن كانت «صحيحة» وتؤدّي المعنى عينه للكلمات المستعملة في طبعة فاندايك، لكن قد لا يستطيع بعض القرّاء المعاصرين لفاندايك، أو الأكثر حداثة، إدراك معانيها، أو كانت استبدالاً لكلمات الدبّاس بكلمات لغويّة أكثر دقّةً أو «فصاحة».

أمّا الملاحظة الأهمّ، فكانت بعض الكلمات التي وجدت الدراسة أنّ سبب تغييرها لم يكن لغويًّا، بل لاهوتيًّا. فجاءت الطبعة الشهيرة تحتوي على الأفكار اللاهوتيّة البروتستانتيّة، التي أراد المرسَلون نشرها بين مسيحيّي المشرق. ذلك بأنّ هذه الإرساليّة اتّخذت قرارًا بتأجيل العمل مع اليهود والمسلمين والتركيز المتعمّد على تحويل كلّ طاقات الإرساليّة للعمل مع الكنائس الشرقيّة ومحاولة إحيائها على الطريقة الإنجيليّة. فانحرفت عن مسارها الأساس. وجاءت الطبعة الجديدة من الكتاب المقدّس لتحقيق هذه الغاية. فاستعملوا نصّ طبعة الدبّاس المقبول لدى المؤمنين الذين يحفظون نصّه عن ظهر قلب بسبب تكرار قراءته في الكنائس، وبذلك ضمنوا انتشار الطبعة الجديدة. هذه الطبعة التي أدخلوا عليها تعديلات طفيفة (أقلّ من ٢٠٪) تحمل معها مفاهيمهم اللاهوتيّة.

فمثلًا عرّبوا كلمة «باراذوسي» إلى «تقليد» عندما تأتي بمعنى سلبيّ وإلى كلمة «تعليم» عندما تأتي بمعنى إيجابيّ، لتكون حجّتهم في إقناع المؤمنين بترك تقليد الكنيسة المقدّس والاستماع إلى تعاليمهم هم فقط. كما عرّبوا كلمة «برسفيتيريس» إلى «شيوخ» بدلاً من «أساقفة»، ليقنعوا الناس بأنّ ترتيب كنيستهم المسمّاة «المشيخيّة» يستند إلى تعاليم الكتاب المقدّس، بينما الترتيب الأسقفيّ، المعتمد في كنيستنا، يخالف تعليم الرسل. وهناك كلمات ذات تأثير أكبر لا يسعنا في هذا المجال إيرادها وشرحها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هل عرّب فاندايك الأناجيل