...

الصوم تجلي العيد

 

 

أيها الأبناء المحبوبون بالربّ،

صيام مبارك!

“هاأوان الصيام والجهادات الروحية” تقول الترانيم هذه الفترة. أرفع يدي إلى الناظر بعين الرأفة إلى جهاداتكم سائلاً إياه أن يتقبّل محاولة كلٍّ منا بمقداره ومستطاعه. فلنحاولْ أن نقدم كل ما نستطيع. ولننظرْ إلى القديسين كمثال لنا. وهاكم داوود النبي يصرخ في المزامير:

“سهوتُ عن أكل خبزي ولصق لحمي بعظمي”

يشكك الناس اليوم بأهمية الصيام، مكتفين بما يسمونه ” صوم” اللسان واليد و النظر … بينما نرى الكتاب المقدس يشدد على الصوم كممارسة أساسية جداً! كيف نفهم الصوم إذاً و ما ضرورته!

 هناك إجابات عديدة شائعة. يبدو الصوم للبعض، تعذيباً للجسد وإخْماداً لثوراته. كأنَّ الجسد هو سجنٌ للنفس الخاطئة، وتعذيب وعقاب لها؛ وفي الحقيقة ليس الأمر كذلك. الجسد ليس مُقدَّساً وحسب، بل هو مَقْدِسٌ للربّ بالذات، كما عرّفه بولس الرسول. الجسد مُقدَّس، وبالصوم يتقدّس أكثر.

أو ربما يكون الصوم لآخرين مجرد ممّارساتٍ استغفارية أو استدراراً لرحمة الله أمام خطايانا البشرية. إنَّ العهد القديم ملآن فعلاً بأمثلة على ذلك. نعم إنَّ الصوم كذلك، ولكن ذلك ليس الصوم كلَّه. فما هو الصوم إذاً ؟

للإجابة، نعود إلى الكنيسة في قرونها الأولى. الكنيسة الأولى التي انطلقت من قيامة المسيح، لم يكن عندها “صوم كبير” أو أصوام عديدة وطويلة. لم يكن عندها صوم بقدر ما كان عندها “عيد”، الحدث كان قيامة المسيح وكان الفصح في الكنيسة هو العيد.

لكن عبر الزمن، بدأ المسيحيون يستعدّون للتعييد،  بثلاث أيام “صوم” قبل الفصح، ثمَّ أطالوا الصيام فصار كل أسبوع الآلام. وهكذا، بينما كانت تحاول الكنيسة أن تحيا العيد، تمخضت بالأصوام وهذا ما قادت إليه الخبرات الروحية: إنَّ العيد يستحق فعلاً أربعين لا بل خمسين يوماً من الصوم.

الصوم في ضمير الكنيسة، ليس تعذيباً للجسد، ولا واجباً، أو استغفاراً، بل هو استحضار للعيد. الصوم سلَّمٌ، كل يوم من أيامه هو بمثابة درجة نصعد بها إلى يوم العيد. الصوم ليس فترة “حرمانات”، كما يسميه العامة، تسبق العيد ونستبدلها بالملذات بعده. الصوم بكلمة هو “هِبات” أي هو إشراقات العيد. يبدأ العيد صغيراً  من أول يوم من أيام الصوم وينمو. يستحضر الصوم العيد البعيد ويجعله قريباً. الصوم بكلمة مختصرة هو تجلِّي العيد، الصوم الكبير هو فترة تبدأ تجعلنا فصحيين حتى إذا ما جاء الفصح نُعَيِّد العيد.

قد يبدو الصوم لمن يجهله حرماناً وتعذيباً، لكن لمن يحياه هكذا، فإنَّه يغدو فرحاً وتعييداً. هذا هو حزن الصوم البهي، وبهاؤه يكمن في مجيء العيد وحضوره المتدرج إلى حياة الصائم، أي في تجلي العيد له يوماً بعد يوم.

يصير الصوم كتجلٍّ للعيد تجلٍّ للإنسان الفصحي الذي يقدر على التعييد. نحن، كلنا، من يوم المعمودية صرنا فصحيين، لكن المسلكيات اليومية تزّيفنا وترمي علينا وشاح إنسان عتيق بعد أن كنَّا قد لبسنا المسيح. وكلنا نتأرجح بين ذلك العتيق وبين المسيح. والصوم يجلّي فينا الإنسان الجديد. أي أنَّه يغسلنا ويطهّرنا بالتوبة. لذلك فإنَّ حركة الصوم كتجلٍّ للإنسان ليست إلاَّ حركة التوبة أي خلع ذلك الوشاح القديم ولبس الإنسان الجديد.

هذا الصوم نرجوه لكم بالحزن البهيّ، أو بالتوبة الفرحة!

 

 

الصوم تجلي العيد