...

الشابّ الذي هرب عريانًا

كانوا في بستان الزيتون لمّا وصل يهوذا، أحد الاثني عشر، يقود عِصابةً، تحمل السيوف والعصيّ، أَرسلها عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ، لتُلقي القبض على يسوع. وأعطاهم علامةً، ليُمسكوه: “هو ذاك الذي أُقبّله”. وبعد أن تمّم الخيانة، حدثت جلبة عظيمة. استلّ أحد الحاضرين سيفًا، وضرب خادم عظيم الكهنة. فقال لهم يسوع: “أعَلى لصّ خرجتم تحملون السيوف والعصيّ، لتقبضوا عليّ؟ كنتُ كلّ يوم بينكم أُعلّم في الهيكل، فلم تُمسكوني. وإنّما حدث هذا، لتتمّ الكُتُب”. فتركوه كلّهم، وهربوا. و”تبعه شابّ يستر عريه بإزار، فأَمسكوه. فتخلّى عن الإزار، وهرب عريانًا” (مرقس ١٤: ٤٣- ٥٢).

لم يذكُر أيّ إنجيليّ، سوى مرقس، أمر هذا الشابّ. مَنْ هو؟ ثمّة مفسّرون رأوا أنّه شابّ وُجد هناك بالمصادفة (كان نائمًا يغطّي نفسه بإزار)، وقرّر أن يتبع يسوع، ثمّ هرب. وآخرون اعتمدوا على التفاصيل المبيَّنة، ليقولوا إنّه هو مرقس كاتبُ الإنجيل نفسُهُ. هل هو فعلاً؟ ربّما. وربّما يكون تلميذًا آخر كان يتبع المعلّم، وهرب أُسوةً بالتلاميذ الآخرين الذين تخلّوا عن معلّمهم في الظرف الحالك.

أوّل ما يلفتنا، في هذه التفاصيل، عبارة: “يتبعه”. وهذه، في لغة العهد الجديد، لا تعني المراقبة من قريب أو بعيد، بل أن يمشي إنسان في إثر آخر، ويربط مصيره بمصيره. وقد استعملت هذه العبارة لوصف التلاميذ الذين آمنوا بيسوع، وتركوا كلّ شيء من أجل أن يكونوا معه وحده (أنظر مثلاً: مرقس ١: ١٨، ٢: ١٤، ٦: ١). ثمّ نقرأ عنه أنّه كان يرتدي إزارًا. والإزار هو “الوزرة” في العاميّة، أي قطعة قماش تلفّ الخصر. وهذا، الذي يصف ما جرى، إن لم يدعم قول المفسّرين الذين رأوا أنّ هذا الشابّ هو مرقس الإنجيليّ، فإنّه يدعمهم في تلميذ آخر (يعرفه مرقس). وتُساعدنا عبارة “أَمسكوه” على الاستقرار في أنّ هذا الشابّ كان أحد تلاميذ يسوع (ناله ما نال معلّمه). لم يقل الإنجيليّ: حاولوا أن يمسكوه، بل أمسكوه. ولا يغيّر هذا أنّه “تخلّى عن الإزار، وهرب”، بل يزيده بيانًا: التلاميذ، حينئذٍ، “تركوه كلّهم، وهربوا”!

أمّا لِمَ قال مرقس الإنجيليّ إنّه “هرب عريـانـًا”، فأمـر يفتـرض ذكـر أمريـن اثنيـن. أوّلهما أنـّه أراد أن يؤكـّد واقعـة هروب ذلك الشابّ (الذي لم يكن عليه سوى إزار)، أي تفلّته من أيدي الذين أَمسكوه. وتاليهما أن يمـدّ مـا جـرى إلى آفـاق تفترضه. فهذا، تلميذًا من خارج حلقـة الرسل الاثني عشر، يستبـق، من موقعـه، أزمنـةً ستتعـاظـم فيها الخيـانـة والجحـود (أو إذا أخذنا أنّ مرقس يكتب عن هذه الحادثـة بعـد حدوثها بعشرات السنين، فنكـون أمام أزمنـة يعـرفها عيـانـًا). وإذًا، ربطُ الإنجيليّ حادثة الهروب بالعُري هو، أيضًا، إمعـان في وصف الجبن الذي يُصيب كلّ تلميذ يُفضّل، في أزمنة الفوضى، العار على الإخلاص التامّ للربّ معلّمه! وهذا ما قد أوحى بـه الـربّ، قَبـْلاً، ردًّا على أربعـة من تلاميذه المعتبَرين، سألـوه: “قـُل لنا متى تكـون هذه الأمور (خراب الهيكـل أو نهايـة العـالم)، وما تكون العلامة أنّ هذه كلّها تُوشك أن تنتهي؟”. قال لهم: “سيُسلّم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ابنه، ويثور الأبناء على والديهم ويُميتونهم، ويُبغضكم جميع الناس من أجل اسمي. والذي يثبت إلى النهاية، فذاك الذي يخلُص” (مرقس ١٣: ٤ و١٢ و١٣).

ثمّة عن العُري أمر آخر أيضًا. وهذا نستمدّه من بلاغة الذين اعتبروا أنّ هذا العري، الذي تمّ في سياق القبض على يسوع، إنّما تمّ قَبْلَ موت الربّ وقيامته. فمرقس الإنجيليّ، بعد حدث الفصح، عاد إلى ذكر “شابّ” (في المواقع الموازية، قال الإنجيليّ متّى: “ملاك”؛ ولوقا: “رجلان”؛ ويوحنّا: “ملاكان”) إنّما أفصح أنّه كان مرتديًا “حلّةً بيضاء” (١٦: ٥). أين كان؟ كان، في القبر، “جالسًا عن اليمين”. بعض النسوة، مريم المجدليّة ومريم أُمّ يعقوب وسالومة، كُنّ قد أتين، عند فجر يوم الأحد، ليُطيّبن جسد يسوع. وبعد أن دخلن القبر، وجدن هذا الشابّ، فارتعبن. فقال لهنّ: “لا ترتعبن! أنتنّ تطلبن يسوع الناصريّ المصلوب. إنّه قد قام وليس ههنا، وهذا هو المكان الذي كانوا قد وضعوه فيه. فاذهبن وقُلن لتلاميذه ولبطرس: إنّه يتقدّمكم إلى الجليل، وهناك ترونه كما قال لكم” (١٦: ٦ و٧). هذا الشابّ، الذي نقل خبر القيامـة، اعتبـر المعتبـرون أنّـه هـو الذي ولّى عـاريـًا يـوم اعتُقل يسوع. كان في القبر الذي هو صورة عن حوض المعموديّة. عُري، أعقبه ارتداء “حلّة بيضاء” هي ثوب المعموديّة التي هي مشاركة في موت المسيح وقيامته (رومية ٦: ٣ و٤)، هذا ما خلُصوا إليه. وإذًا، إن كان هذا الشابّ هو مرقسَ نفسَهُ أو تلميذًا آخر، فهذا الاعتبار يجعله قد نال مغفرةً عن هروبه، نالها من موت المسيح وقيامته، وَصَالَحَ أنّه شاهدٌ لقيامة الربّ يسوع (أو نال الولادة الجديدة، ليشهد لها). إن كان هذا ربطًا واقعيًّا أو مبالغًا فيه، فلا يغيّر أنّ المعموديّة، هي هي، أن نتعرّى (أي أن نخلع إنساننا العتيق)، ونرتدي، بمشاركتنا في

موت المسيح وقيامته، حلّةً بيضاء (أي أن نلبس إنساننا الجديد)، وتكون حياتنا كلّها أن نشهد للإله الذي هدانا إليه، حيًّا، في هذه المشاركة.

كان، هناك، في ذلك الوقت العصيب، شابّ يتبع المعلّم، وهرب من الذين أمسكوه عريانًا. مَنْ هو؟ ربّما، إلى ما ذكرناه، قد أرادنا الإنجيليّ أن نرى أنفسنا، نحن أيضًا، في ذلك الشابّ. لم يرد لنا أن نهرب عراةً!، بل أن نتعرّى من كلّ ما يعيق أنّنا شهود لإلهنا الحيّ. كلّنا كنّا هناك. وكلّنا تساقطت علينا أنوار الفصح الذي جدّد لنا شبابًا لا ينقضي، لنستر عُري التاريخ برداء المسيح الذي صالحَ الكون بدمه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشابّ الذي هرب عريانًا