...

إنجيل أحد الأعمى

لِمَ وضعت الكنيسة هذه التلاوة الإنجيليّة في قِمّة آحاد الفترة الفصحيّة (يوحنّا ٩: ١- ٣٩)؟ سأقتبس، من هذه التلاوة، ثلاث نقاط أراها تشكّل جوابًا مرجَّحًا عن هذا السؤال.

قَبْلَ أن نستدلّ على هذه النقاط، ينفعنا أن نلاحظ أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة زرعت، في آحاد هذه الفترة الفصحيّة، نصوصًا إنجيليّة، معظمها من إنجيل يوحنّا (ما عدا إنجيل أحد حاملات الطيب، فمن إنجيل مرقص)، تبدو كلّها لم تكتب بحبر، بل بمياه المعموديّة التي كانت تجرى في “سبت النور”. فالصوم الكبير، الذي أنهاه عيد الفصح المجيد، كانت الكنيسة تعدّ فيه للمعموديّة أشخاصًا موعوظين (يهودًا أو وثنيّين)، قبلوا الربّ يسوع إلهًا ومخلّصًا. وهكذا قرأت الكنيسة علينا، في أوّل أحد تلا الفصح، إنجيل أحد توما، ثمّ إنجيل حاملات الطيب، ثمّ المخلّع، ثمّ السامريّة، واليوم الأعمى. ومـا يمكـن أن يعتبـر قـاسمًا مشتـركًا بين هذه الأنـاجيـل الخمسة، هو أنّ ما يحرّك كلاًّ منها، إلى الربّ يسوع، شخص واحد فقط: الرسول توما، الشابّ في القبر (أحد حاملات الطيب)، والأشخاص الثلاثة الآخرون. هذا، في شكله، يجب أن يعني لنا أنّ المعموديّة، التي يقبلها كلٌّ منّا وحده، قائمة في هؤلاء الشهود الذين يعبق بهم سرّ الجدّة (أو فصح الربّ). هم كلّهم صورةُ ما يُنتظر من كلّ مَنْ ماتوا مع المسيح، وقاموا معه إلى حياة جديدة.

إذا أخذنا في الاعتبار مضمون هذه المقدّمة، فيبقى أنّ أوّل أمر من الأمور الثلاثة، التي نرجّحها جوابًا عن سؤالنا المبيّن، هو أنّ الكنيسة، في اختيارها إنجيل الأعمى اليوم، تريد أن تضمن، قَبْلَ أن تقفل موسم الفصح، أنّنا ترسّخنا في اعتقادنا أنّ المعموديّة هي النور حقًّا. كانت الكنيسة قد أعلنت، أحدًا تلو أحد، هذه الإرادة. وفي هذه التلاوة الإنجيليّة التي يشفي الربّ فيها أعمى منذ مولده، تعيد إعلانها بقوّة. وفي قراءتنا إيّاها، يمكننا أن نلاحظ براعة هذا الرجل في حوارات خاضها. نلاحظ، ويمكن أن نحار، فنسأل: من أين أتت بلاغته؟ فالرجل لا يمكن أن يكون قد قرأ حرفًا في حياته كلّها. بلى، قد يكون سمع أمورًا عن الله في مجامعهم. ولكنّ هذا لا يكفي وحده، ليحوز هذه البلاغة الظاهرة. أمّا حيرتنا، فيزيلها كلّها إيماننا بأنّ قوّة الشهادة إنّما يعطيها، نعمةً، الروحُ القدس الذي قال فيه الربّ، مرّةً، إنّ كلّ مَنْ يقبله “تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يوحنّا ٧: ٣٨). وهذا، لا سيّما في زماننا الذي بات الكثيرون يحصرون الشهادة فيه بِمَنْ يحسبونهم أهلها (الأساقفة، الكهنة…) أو يقدّسون العلم (من دون أن ننتقد أهمّيّته)، يقول، بصوت واثق، إنّ التقديس واجب، دائمًا، للنعمة التي أقامتنا جميعنا، في معموديّتنا، شهودًا لله الحيّ.

الأمر الثاني هو أنّ أفق هذا الشاهد كان العالم كلّه: خصوم يسوع، الناس الذين يشاهدونه يُجَرّ من هنا إلى هناك، وذويه. وهنا، يعنينا أن نخصّص ذويه. معظمنا، إن ذكرنا الشهادة، تأخذنا أحلامنا إلى الناس البعيدين الذين لم يعرفوا الله أبا ربّنا يسوع. وهذا أمر صحيح وضروريّ. ولكنّ هناك كثيرين، يحيون بيننا، يعوزهم مَنْ يبشّرهم من جديد. أبوا هذا الرجل، عندما سألهما اليهود عن ابنهما، أجاباهم: “هو كامل السنّ، فاسألوه”. وهذا، جوابًا، لا شيء يمنعنا من أن نقرأ فيه أنّ الأولاد يمكن، بل يجب أن يشهدوا لله أمام ذويهم. هذا نوع عالٍ من أنواع الشهادة: “أن نسعى إلى تنصير النصارى”! وإذا أخذنا أنّ أبوي مَنْ كان أعمى قد خافا من أن يعترفا بجِدّة ابنهما، فيعلو واجب الشهادة أمام كلّ قريب يأبى الجِدّة. قَبْلَ أن نودّع عيد الفصح إذًا، تقول لنا كنيستنا، في هذا الخيار، عالم شهادتكم يبدأ من داخل بيوتكم!

أمّا الأمر الثالث، فيبيّنه هذا العداء الكلّيّ الذي كان يحوط بهذا الرجل الذي وُلِد أعمى. لِمَ هذا الاصرار، قَبْلَ وداع العيد بأيّام، على اختيار نصّ إنجيليّ يعجّ بذكر أعداء الشهادة؟ ما من جواب سوى أنّ الكنيسة أرادت أن تقول للكلّ مسيحيّ معمَّد قولاً أخيرًا، قولاً يشبه الوصيّة، بل وصيّة. وهذا:

“أيّها المعمَّد، لا تحسب أنّ قوّة الشهادة تكمن في قبول الناس إيّاها. الشهادة قوّتها فيها، في إيمانك بِمَنْ ولدك جديدًا، بِمَنْ نقلك من الظلمة إلى النور. ربّما تنتظر أن يدعمك في شهادتك أشخاص تعرفهم (أو لا تعرفهم). لن أحرمك هذا الدعم. لكنّني لن أعمّم، بل سأكتفي بذكر شخص واحد. إن كنت تريد داعمًا حقيقيًّا، فخذ هذا الأعمى الذي سمعت عنه اليوم. هذا كان، وحده، يدافع عن إله لم يره قَبْلاً! كان يدافع شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا، أي كان كما لو أنّه، وحده، يواجه عالمًا كلّه يخاصمه. لا تترك هذا الأعمى أسير دفّتي كتاب أو قراءةٍ موسميّة، بل احفظ ذكره في قلبك، والهج بما فعله ليل نهار. هذا مثال لك. كلّ ما قيل عنه يُنتظر أن يقال عنك. لا تبرّر ذاتك بأمر. دائمًا، اذكر إصراره، حبّه “الجنونيّ”. وإن أردت أن

تتعلّم شيئًا رائعًا منه، فإلى إصراره وحبّه، لاحظ أنّه لم يتكلّم من سوى خبرة شخصيّة. فالشهادة لله ليست ما تعرفه ذهنيًّا عنه، بل ما يجعلك أنت تختبره. هذا العالم لا يعوزه أناس يعرفون أشياء عن الله، بل الله نفسه، الله وحده. اشهد عن خبرة شخصيّة إذًا، وثق بأنّ العالم، إن لم يقبل شهادتك، فلن يتركك الربّ وحدك. سيجدك. ففيك، وحدك، إن استحققت أن يجدك الربّ، يعلن نصره كاملاً. أنت نفسك، إن رفض العالمُ كلُّهُ إلهَكَ، تبدو العالم الذي قام المسيح من أجله. احفظ هذا، وتابع الشهادة راجيًا”!

هذا قمّة الأناجيل التي قُرئت علينا قَبْلَ وداع عيد الفصح، بل هذا رسم لحياتنا يومًا فيومًا!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إنجيل أحد الأعمى