...

«أنتم هيكل الله الحيّ»

بات الإنسان هيكلاً لله الحيّ منذ أن سكن كلمة الله في الجسد، وصار إنسانًا تامًّا: «والكلمة صار جسدًا وحلّ فينا ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمةً وحقًّا» (يوحنّا ١: ١٤). تجسُّد الكلمة هو الذي أتاح للإنسان أن يشارك في هذا المجد الإلهيّ، أي أن يصبح هو بدوره هيكلاً لله الحيّ. وما المعموديّة المقدّسة سوى تأكيد لتحوُّل الجسد البشريّ من مجرّد كونه لحمًا ودمًا إلى أن يصبح بالحقيقة هيكلاً يسكن فيه روح الله. وهذا ما يحقّقه سرّ الميرون المقدّس عبر منْح المعتمد «خَتم موهبة الروح القدس». ثمّ يأتي التتويج من خلال المشاركة الدائمة في تناول جسد الربّ ودمه في القدّاس الإلهيّ، بحيث نتّحد عضويًّا بالربّ يسوع الذي يسكن فينا عبر المناولة.

الأسرار المقدّسة هي التي تجعلنا هياكل مقدّسة. وذلك يتطلّب من جهتنا الأمانة تجاه ما حصلنا عليه من قدُسات، وأن نعمل تاليًا بما تستوجبه منّا تلك القدُسات. فالهياكل المقدّسة لا تحتمل البتّة أيَّ تساكُن مع الشرّير، أو أيَّ مساومة على المبادئ المسيحيّة. وفي ذلك يقول القدّيس بولس الرسول: «أيّ صلة بين البرّ والإثم؟ وأيّ اتّحاد بين النور والظلمة؟ وأيّ ائتلاف بين المسيح وبليعال؟ وأيّ شركة بين المؤمن وغير المؤمن؟ وأيّ وفاق بين هيكل الله والأوثان؟» (٢كورنثوس ٦: ١٥-١٦). يقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ (+٣٩٤) تعليقًا على هاتين الآيتين الشريفتين: «بما أن لا اختلاط بين النور والظلمة، وأنّ التضادّ بينهما لا تقاسُم فيه، فالمشارك في كليهما لا صلة له بأيّهما… فما دُمنا نمسك المتضادّات بيدينا، فيستحيل وجود اشتراك للعنصرين في الشخص نفسه. فإنْ كنا نمسك بالشرّ، فسنفقد القدرة على الإمساك بالفضيلة».

في هذا السياق أيضًا يقول القدّيس إيرونيموس (+٤٢٠): «لا توجد محبّتان متناقضتان في إنسان واحد، ولا ائتلاف بين المسيح وبليعال، بين عدل وجور، كذلك لا يمكن للنفس أن تحبّ الصلاح والشرّ معًا. يا مَن تُحبّون الربّ امقتوا الشرّ، أي إبليس… يا مَن تُحبّون ما هو صالح، امقتوا ما هو شرّير. فلا يمكنكم محبّة الصلاح ما لم تمقُتوا الشرّ». لذلك علينا أن نكون ثابتين في اختيارنا الربّ وفي نبذنا للشرّير. فالمسيح أوصانا بأن نحارب الشرّ ونقضي عليه بعدم الانجرار وراء التجربة المهلكة. وقد قال الربّ في الموعظة على الجبل: «لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين، لأنّه إمّا أن يُبغض الواحد ويحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (متّى ٦: ٢٤). ما قاله الربّ عن المال ينسحب أيضًا على كلّ الأصنام التي تستعبد الإنسان في هذه الدنيا.

غير أنّ فيلوكسينوس أُسقف مَنبج (+٥٢٣)، أحد آباء الكنيسة السريانيّة، يربط بشكل رائع كون الإنسان هيكلاً لله الحيّ بالمعموديّة المقدّسة، فيقول: «يحدث الشيء ذاته معنا نحن المعمّدين: فبعد الموت لا تبقى معنا رطوبة ماء اعتمدنا فيه، ولا لزوجة زيت دُهنّا به. لكن يبقى الروح القدس الممتزج في نفوسنا وأجسادنا، من خلال الزيت والماء، معنا في هذه الحياة وبعد الموت. إنّه معموديّتنا الحقّ؛ ولذا نبقى معمَّدين على الدوام، بسبب استمرار حلول الروح القدس فينا… بسبب إنكار الله والاقتران بالشياطين يهجرنا الروح القدس، لأنّه لا يقبل المكوث حيث يمكث إبليس». من هنا يأتي دور التوبة في تصويب الانحرافات التي قد نقع فيها، وفي القضاء على الخطيئة التي ننساق إليها من حين إلى حين.

تأتي رسالة اليوم الأحد، أحد الكنعانيّة، لتُوضح الهدف من اعتبار الإنسان هيكلاً لله الحيّ. فبعد أن يتوجّه القدّيس بولس بضمير المخاطب للمؤمنين في كورنثوس قائلاً: «أنتم هيكل الله الحيّ كما قال الله إنّي سأَسكُن فيهم وأَسيرُ في ما بينهم وأَكونُ لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا. فلذلك اخرجوا من بينهم واعتزلوا يقول الربّ ولا تمسُّوا نجسًا»، يصل إلى الحديث عن المكافأة التي ينالها العاملون وفق مشيئة الله، أي أن يصيروا «أبناء وبنات» للربّ القدير. يريدنا الله أن نبتعد عن كلّ إثم، وعن كلّ ما يُنجّس الجسد كالزنى والفسق، وكلّ ما ينجّس النفس من أفكار شرّيرة كالكبرياء والطمع وحبّ الرئاسة… لكنّ القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+٤٠٧) يذهب أبعد من ذلك، فيقول: «الامتناع عن لمس الدنس لا يجعلنا أطهارًا، إذ يلزمنا شيء آخر لنصبح قدّيسين: الاجتهاد والإصغاء والتقوى».

يوجز التراث المسيحيّ سرّ التدبير الإلهيّ بالعبارة الآتية: «صار الإلهُ إنسانًا، ليصير الإنسانُ إلهًا». لكن إذا استندنا إلى ما ورد في رسالة اليوم لقلنا: «صار ابن الله إنسانًا، ليصير الإنسان ابنًا (وبنتًا) لله». لا تناقُض بين العبارتين، بل لهما المعنى ذاته. وما الصلاة التي علّمَنا إيّاها الربّ يسوع سوى تأكيد على هذا التبنّي الإلهيّ للإنسان عبر يسوع المسيح الابن الأزليّ. لقد أُتيح لنا أن نتوجّه إلى الله بكونه «أبانا»، فعلينا أن نستأهل حقًّا أن نكون أبناء له عبر تنفيذ مشيئته في الأرض. أن نكون هياكل لله الحيّ يستوجب منّا أن نكون حقًّا أبناء له، خاضعين لمشيئته، عاملين بكلمته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

«أنتم هيكل الله الحيّ»