...

الصعود

 

 

 

 

 

آخر مظهر للقيامة هو الصعود. وهو شبيه بالتجلي من حيث المعنى. في جبل ثابور وهنا كان السيد نيرًا. وفي ثابور كما في بيت عنيا التي منها صعد كان الحديث عن آلامه. ولكن ماذا يعني ارتفاع المسيح الى السماء اذ لم يبرح احضان الآب؟ “ان المسيح صعد الى حيث كان اولا” (صلاة المساء). صلاة المساء تقول ايضا متوجهة اليه: “أَصعدت طبيعتنا الهابطة وأجلستها مع الآب”. في الخطاب الوداعي (بعد العشاء السري) يؤكد اولا: “اني انا في ابي وانتم فيَّ وانا فيكم” ولكنه يقول ايضا: “اني مُنطِلق الى الآب”… اترك العالم وأمضي الى الآب. وبعد ان قال هذا يعود الى التأكيد: “انت ايها الآب فيّ وانا فيك”.
العودة الى الآب (مع كون طبيعته الإلهية لم تنفصل عن طبيعة الابن) هي اذًا رفع جسده الى الآب. “ليدخل ملك المجد” اي ليدخل بكيانه الكامل الإلهي والإنساني. ومن هذا الكيان الإلهي والإنساني معا يرسل الروح القدس الى العالم ليمتد هذا الكيان الإلهي-الانساني الموحد بالروح القدس الى الإنسانية. نحن بالنعمة نأخذ المسيح الكامل. والأسرار الإلهية يتقبل من يساهمها المسيح الكامل. لذلك يمكن الكنيسة ان تكون جسده اي واحدة مع القائم من بين الأموات بجسده.
“واما انه صعد فما هو الا انه نزل ايضا (اولا) الى اقسام الأرض السفلى (اي الجحيم التي هي مملكة الموت). الذي نزل هو الذي صعد ايضا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل” (افسس 4: 9و1.). ولكن قبل ان ينزل الى الجحيم نزل الى الإنسان بالتجسد والميلاد ولازم الإنسان. عندنا حركة نزول الى البشرة ثم الى الموت تقابلها حركة ارتفاع عن الموت بالقيامة التي يليها الصعود.
غاية ذلك كله ان نكتمل نحن، ان نتحرك الى ما سماه الرسول “انسانا كاملا” حتى نبقى في دوام التوجه الى “ذاك الذي هو الرأس المسيح”. صعوده وحركتنا اليه والى ابيه وروحه هذا ما ينشئ الكنيسة، هذا ما يبنيها ويبني كل واحد فيها.
فاذا فهمنا هذا نعرف اننا منذ الآن جالسون معه في السمويات وان وطننا صار السماء وأنها هي مطلبنا. فالأرض مكان ارتقاء اليها. فكرنا لا يتكون الآن من الأرض وما عليها ولكنه اصبح فكر المسيح. ومهما تقلبت على الدنيا شؤون وشجون نعرف ان المسيح لكونه يحبنا هو الذي يهيمن علينا ونسعى الى هيمنته هذه بالطاعة لكلماته. بها يثبت فينا ونحن فيه.
كل شيء فينا قد صار جديدا ولو كنا نتعاطى الأشياء المعروفة منذ القديم (الحياة العائلية والفكرية والاقتصادية والسياسية). الرب لا يريد ان نتركها اذ لا بد ان نأكل ونشرب ونبني عائلة ونقوم باعمالنا المختلفة ونحيي المجتمع بتداول شؤونه. ولكن اذا عملنا كل هذه الأشياء نحيا حياة الجالس عن يمين الآب. نكون على الأرض ونحن سماويون. في هذا المنطق لا نحتقر الجسد كما احتقرته بدع قديمة والحركات البوذية ولا نذله ولا نهمله ولا نستسلم للمرض ذلك لأن “اجسادكم هي هياكل للروح القدس” وقد مُسحت بالميرون وتناولت القرابين. وبسبب القرابين التي فينا نقوم في اليوم الأخير. اجسادنا ونفوسنا معا مشدودة الى الجالس فوق على العرش مع أبيه وروحه القدوس.
ولكون جسد المسيح صار ممجدا وإلهيا نحترم اجساد الآخرين فلا نقهر احدا ولا ندنسه لا بروحه ولا بجسده بل ندعوه بالمحبة ان يصير مقدسا مستمعا الى كلام يسوع ومرتقيا منذ الآن اليه.
الصعود كان اذًا مفتاح سلوكنا وسبب انجذابنا الدائم الى يسوع. لذلك اوصانا بولس ان نطلب دائما ما هو فوق فلا ينبغي ان نهتم بالصغائر ولا ننهمك بالمجد العالمي الذي يحجب عن قلوبنا المجد الإلهي. لقد جئنا من فوق بالخلق ونعود الى فوق بآلام السيد وقيامته وصعوده.
جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
عن “رَعيّـتي”، العدد 22، الأحد 1 حزيران 2003

 

الصعود