...

الروح القدس

 

 

صعب الكلام على الروح القدّس، لأنه ليس ذا وجه منظور كوجه المسيح.

في البدء كانت الخليقة خربة خالية، وكان روح الله يرفّ على وجه المياه، فانتقلت به السماء والأرض من الفوضى إلى شيء منظّم. ثم كان الأنبياء، فكان الله ينتقي من بني اسرائيل قومًا يفرزهم لنفسه ويقدّسهم بكلمته، ويجعل فيهم نفحات من روحه، حتى جاء الكلمة الإلهي ومات وقام. قرأنا في إنجيل اليوم «ان الروح القدس لم يكن أُعطي بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجّد بعد». أي لمّا بلغ الحب الإلهي أقصاه بالموت، انطلق الروح الإلهي إلى العالم.

في هذا العيد، في اليوم الخمسين من بعد الفصح، لما أرسل الله روحه بشكل ألسنة ناريّة على كل واحد من التلاميذ، دخلنا في اللهب الإلهيّ حيث الكلمة محيية، حيث تصير المياه نارًا تضيء في المعمودية، أي ان الروح يصبح حياة شخصية لكل منا بحيث يصبح الإله الذي يقود الكون، إلهًا شخصيًّا لي أنا. الروح القدّس هو ذلك الأقنوم، ذلك الوجه الذي يجعل كلام الإنجيل ذا نسمة، كلامًا مُحرّكًا، كلامًا مُحييًا. به لا يبقى المسيح مخلّص العالم فقط، ولكنه يصبح مخلصي أنا أيضًـا.

هذا الانتقال من الإله الكوني الذي يقول به الفلاسفة إلى إله يواجهني وأواجهه، إله يحرّك قلبي فيصبح مقرًّا لله، هذا هو عمل الروح القدّس.

كل منا بحاجة، اليوم وغدًا، إلى ان يصبح المسيحُ مسيحَهُ ورب العالم ربَّه. كل منا بحاجة إلى ان يبطل اعتقاده في إله يسكن السماء حصرًا. الله لا يسكن السماء وحدها. هذا قلناه مرارًا. الله يسكن قلوب الناس، ولكن الناس يبعدونه إلى السماوات لكي لا تبقى لهم علاقة به. لأنه اذا كان الله في السماء، يبقى الإنسان حرًّا على الأرض، ويتصرّف حسب شهواته. هذا هو السبب الذي جعل المفكرين يقولون ان الله في السماء أن تبقى الأرض لهم وحدهم. ولكن ان كانت السماء غير موجودة حسّيًا -وهي غير موجودة- وإن كان القلب وحده هو السماء، فلكل إنسان حظ بأن يغدو إلهيًا يحرّكه الله.

ثم الأرض ملك الله وهي ملك للإنسان ان كان من الله. والأرض تُستَباح، والإنسان يمرض ويخطئ. ليس هو -أي الإنسان- إلهًا، لكنه مرشح للألوهة. أنت لستَ وحدك إلهًا، لكنّك إله مع الكل. وإن كنت لا تحبّ الكلّ أو الكلّ لا يحبونك، لا يمكن ان يضمد جرحك. أنت يجب ان تضمد جراحات الناس.

من أجل ذلك الروح القدس هو «المعزّي» لأنه روح الإنصاف، روح الرجاء، لأنه يبلسم جراحنا حتى يعود الكل إلى الآب. الروح القدّس ليس معزيًا بمعنى انه يعوّض عن الناس وعن وجوه الناس، ولكنه هو الذي يعيد وجوه الناس صحيحة، هو الذي يجعل وجوه الناس جميلة، هو الذي يجعل بهاء الله يرتسم على وجه كل إنسان لأنه ختم بمسحة من القدوس.

خذوا اليوم نعمة الروح القدس.

جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

عن “رعيّتي”، العدد 25، الأحد ١٩ حزيران ٢٠١٦

 

 

 

 

 

الروح القدس