...

التـــائــــب

 

 

 

يا ابن الله افتح لي بمحبتك الباب العظيم إنك أنت الباب والطريق والحياة للسائرين إليك، أيها الرفيق الصالح الأمين إني لسائر معك إلى مرسلك، إلى أبيك السماوي، إن للشرير أتباعاً كثيرين ولن يكون لهذا الشرير نصيب بعد في عالمي الجديد، لقد سلكت طريقه السهلة فأعمتني الغواية وضللتني حيله، فوقعت في أشراكه ومن ظلام الهاوية رأيت نورك البهي ساطعاً كالشمس، وسمعت صوتك الفضي يناديني بمحبته فنفضت عني لحاف الظلمة وانتصبت واقفاً، وسرت إليك مستنداً إلى عكاز رحمتك ومدفوعاً بعظيم إيماني بمحبتك التي لا تحد، إن نفسي المريضة سألتك أن تأتي إليها، طلبت منك أن تفتقدها فلبيت طلبها ودخلت مخدعها، لقد فعلت بها كما فعلت بحماة بطرس، لقد مسكتها بيدها كما مسكت بيدي تلك فقامت على قدميها لتخدمك، إن الخطايا كانت تحيط بها كما تحيط الأمراض بالرجل العليل، والجراحات كانت تنزف الدم من كثرة السهام التي رماني بها الإثم فما أرحمك يا الله، لقد غفرت مآثمي فانطفأت فيّ حرارة الأهواء وضمدت جراحي فانقطع النزيف وأحببتني فعاد إلي جمالي ونقاوتي وحريتي.
لقد كانت إرادتي وحدها تمنعني من تحقيق هذا الفعل العظيم، كم طلبت من هذه الإرادة أن ترجع عن الشرور فلم تقبل، كنت كلما ملت إلى الصالحات أشعر بأن قوة تدفعني إلى فعل الشر وكلما أبغضت الإثم فعلته، إرادتان تعملان فيّ الواحدة تضاد الأخرى إرادة الخير وإرادة الشر، وكثيراً ما كنت فريسة للإرادة الأخيرة لأنها قوية بالنسبة لضعف الإنسان، والضعف يستهويه، ولكني عندما التجأت إليك شعرت بأن ضعفي كان وهماً وإرادتي الشريرة كانت ضعفاً بالنسبة ليمينك القوية، وضراوة الإثم دخاناً من حطب رطب بلله الشرير، ورأيت نقاوة صورتي بعد أن أعدت إليها صفاءها وغسلتها بمائك المقدس، فانزاح الغبار عن صفحتها، وسكبت ينابيع غفرانك في الجروح التي انفتحت تحت ضربات الشرير لتملي هاوياتها السحيقة بفيض شلالات غفرانك، ومسحت بيمينك باصرة النفس فانفتح أمامها الأفق بطهره ونقاوته وجماله وشعرت بتصاعد التهاليل من أعماقي، ورأيتك وأنت تبتسم لتوبتي فسبحتك بمحبة ومجدتك بجلال، وقدستك بطهر، وغنيتك نشيدي بصفاء روح ونقاوة قلب. كنت خاطئاً ففتحت لي أبواب التوبة، وباب التوبة مفتوح والطريق سهل للذين يهربون باختيارهم، والمرضى يجدون أدويتهم أمام الباب القائد إلى الحظيرة المقدسة، والداء محبة وحنان وغفران، وهذه الأدوية تشفي الذين يريدون مخلعين كانوا أم عمياناً وتضع حداً للمرض الروحي، والذين يموتون روحياً يجدون الحياة، إن الذين سلكوا طريق الرب أقامهم الرب من بين الأموات، والذين اشتركوا في موت المسيح يقيمهم الله في مجده الظافر، فأين هو الجرح العميق الذي لا يشفى؟ وأين هي العين التي لا ترى؟ وأين هو الكسيح الذي لازم سريره؟ إن الذين لا يؤمنون ولا يريدون أن يشفوا طاردهم المرض وأقعدهم، أما الذين قالوا للرب: افتح لنا يا الله، افتح لنا إننا مؤمنون، نالوا ما أرادوا فاستحال الطين نوراً في عيني الأعمى، واستعاد اليعازر الحياة، وحمل المخلع سريره وعاد إلى مريم المجدلية توازنها الداخلي، وجعل من شهواتها عطراً سكبته على أقدام مخلصها وصارت مثلاً للتحرر الراقي المعتق والمخلص.
أولئك الذين لا يؤمنون يتخبطون بظلماتهم، فلا هم بانسياب النور إليهم يشعرون، ولا بدبيب الألوهة في داخلهم يحسون، ولا برحيق الحياة الطافح من كأس الحياة الخالدة يلتذون، ولا الصوت المجلجل في أعماقهم يسمعون، ولا بالدم المراق والجسد المسفوح، دم التجديد وجسد القوة الخلاقة يشتركون، إنهم كالصخر المصقول المنحني على الهاوية يستقبل خير السماء ويقذفه إلى الوادي المظلم ولكن الله الرحيم يطيل أناته، فهو آب، والآب يحب ويغفر ويرحم، وهو في حبه كريم جواد يحب الخطأة ويذهب وراءهم، فإن هم جدوا المسير مبتعدين، طاردهم حتى إذا أضناهم المسير وأقعدهم التعب وجرحت أقدامهم الأشواك حملهم على كتفيه وأعطاهم قدميه ليسلكوا إليه على أقدامه، فاتحاً طريقهم بنفسه ومضمداً لجراحاتهم العميقة بيديه، يتعهدهم بالرفق والحنان ويطعمهم من جسده، ويسقيهم من دمه حتى يساهموا معه في خليقته الجديدة ويساهموا بإعادة البنيان الذي تداعى تحت ثقل الخطيئة.
إن التوبة عملية عظيمة، إنها صورة واضحة لتقدم الإنسان في عالم الحرية وبعث لها ومساهمة في الخليقة الجديدة وإعادة نحت التمثال العظيم الذي سقط وتكسّر وتشوّه، إنها القوة التي تفيض دموعاً وتتحرك تحت إشاعات الفيض الإلهي كما تتحرك مياه المحيطات تحت تأثير القمر، وهكذا تتعانق اللجج وتلتقي الإشعاعات، وتتعرى الصورة من أقنعتها، ويغرق الجزء في محيط الكل ويعانق الكل بالمحبة في وحدة الغاية والهدف، وتتم عملية الخلاص بالوحدة الإلهية ويصبح الإنسان كلمة للكلمة المتجسد وإبداعاً في عالم الخلاص البشري، إن عملية التوبة تبتدئ بالدموع، والدموع تغسل الأوساخ المتراكمة في طريق البصيرة، وتنتهي بتركيز الإرادة في طريقها الصحيح، وتعيد صورة اللاهوت إلى جمالها القويم ونورها المشرق، والإرادة الملتوية إلى طريقها القويم، والتوبة محبة تستيقظ بعد زيقانها، وهي محبة تحطم الحواجز، محبة لا تسقط أبداً، محبة مبطنة بالدموع، والتائبون يشربون من دموعهم كوثر الفرح العظيم ويأكلون طعام الأزل الخالد، بعكس الخطيئة التي هي انحراف عن الطريق السوي، وفوضى في مجاري علاقات الإنسان مع نفسه، وتقلص في حرارة النفس ودفئها لابتعادها عن النار المطهرة بالمحبة والعدل، وجفاف في ينابيعها الدفاقة لابتعادها عن النبع الغزير، وعمى يحول الحقائق إلى ظلمات تتكدس في مجاري الحياة الباطنة فتصبح مع الزمن كيانية في الكيان الإنساني، لها مفعولها وقوتها ومراميها وغاياتها، وهكذا يتقوى ملكوت الشيطان في الإنسان، ويصبح الإنسان ألعوبة بيده ويصبح الفردوس المفقود مفصولاً عنه بملكوت قائم مظلم، خلقه كبرياء الإنسان وغروره ومطامعه وتخطي هذا الملكوت يتم عن طريق التوبة المتضعة، التوبة الواعية، التوبة المارقة من أتون الألم المطهر والفاصلة جذرياً ما لا يكون عن الحقيقة التي يجب أن تكون، والدافعة لكل القوى الروحية نحو الهدف المنشود الذي من أجله خلق الإنسان، وبدون هذه التوبة لا يمكن أن تعود للنفس أصالتها ولا يمكن أن تتمتع بحريتها.
لأن التوبة تفكيك لكل العقالات، وتحطيم لكل القوى الواهية، وانفتاح جديد على عالم الجمال الأزلي، وحب عميق للمثال يتجه تصاعدياً نحوه للاتحاد به والتمتع بجمال الحرية الحقيقية، والتوبة محبة مستيقظة، وحب الحرية بمعناه الجوهري هو الدافع لهذه اليقظة الروحية أو بالأحرى لهذه الثورة الكيانية على أوضاع قلقة مضطربة لتحرير الكيان من فضلات دخيلة على جوهره، فالتوبة بمعناها الحقيقي تحرر ومحبة وثورة وخلق وإبداع، تحرر من عبودية ومحبة لأزل وثورة على حالة بائسة وخلق في بنيان هدمته الإرادة المريضة، وهي كذلك معمودية مستمرة تحمل في داخلها قوة التجديد والإبداع والتائب يغسل خطاياه بدموعه، ومعمودية الدموع تحمل قوة الغفران بالنعمة التي تستدرها الدموع، وتجسّد الثالوث بالمحبة المتجهة نحو الثالوث وتنصب بين الأرض والسماء سلماً كسلم يعقوب يربط الأرض بالسماء يصعد عليها التائبون إلى الحظيرة المقدسة، ويحدث من جراء عملية التوبة طوفان مدمر يغمر كل ما فينا من زائد ويدمر كل بنيان الخطيئة لتبقى الصورة بعد غسلها بالدموع براقة لماعة نقية يعود إليها عملها لتساهم بالنعمة بعمل التجسد الخلاصي وتشارك الكلمة التجسد المستمر، حياة بالدم والجسد في تحرر الإنسان من سلطان الشر البغيض.
المطران الياس (معوّض) مطران حلب وتوابعها
عن “مجلة النور”، العدد 12، صفحة 356، سنة 1957

 

 

التـــائــــب