...

الفضائل

MEGALI

 

للقديس إسحق السرياني
طريق الكمال تستقيم في ثلاثة أمور: في التوبة والنقاوة والكمال،
ما هي التوبة؟ التوبة هي ترك الماضي والحزن على الخطايا،
ما هي النقاوة؟ النقاوة قلب يفطر رحمة من أجل الطبيعة المخلوقة،
ما هو الكمال؟ تواضع جم عميق، أدرك للعالم المنظور والغير منظور: المنظور هو عالم الحس والغير المنظور عالم المعقولات.
سئل أحد المتوحدين ما هي التوبة؟ فقال: إنها قلب منسحق متواضع وموت أرادي مضاعف من أجل الكل، وما هو القلب الرحيم؟ قال احتراق القلب من أجل الخليقة من أجل كل الناس، من أجل الطيور والحيوانات والشياطين من أجل كل مخلوق، إنه القلب الذي يسكب الدمع عندما تمر بخاطره كل هذه الأشياء، القلب الذي يرق ويصغر من فرط الحنين الذي يتملكه وشدة الرحمة التي تكتنفه، القلب الذي إذا سمع بشر أو ضرر ينتاب الناس أو لاح أمامه طيف حزن أو ألم يعتمر وجوه الآخرين رق وطافت عيونه بالدمع وانسكب صلاة من أجل الذين يسيئون إليه ليحفظهم الرب ويحميهم، ومن شدة رحمته المتحركة على شبه الله العلي يصلي من أجل زحافات الأرض.
وسئل مرة أخرى: ما هي الصلاة؟ فقال انفصال الذهن كلياً عن عالم الحس وقلب يعود بالرؤيا إلى ذلك اليقين، إلى ذلك الرجاء بالأمور المستقبلة، من تجرد من هذه الأمور فإنه يخلط بذاره ببذار آخر فيكون كالفلاح الذي يشد ثوراً وحماراً معاً إلى نير واحد.
وسئل مرة أخرى، كيف نحصل على التواضع؟ فقال: بالتذكر الدائم لسقطاتنا، والرجاء الذي يقرب من الموت، واللباس الحقير، واختيار أدنى مقام، والقيام بأحقر عمل مجهول تافه، والصمت الدائم ومقت الحياة الصاخبة والاجتماعات الغوغائية، وعدم محبة الربح وجعل الذهن صافياً فوق متناول الاتهامات، وألا تكون يدك فوق الجماعة ويد الجماعة فوقك، ومحبة الانفراد، وعدم الاهتمام بالعالم، ومحبة الغربة والفقر والسيرة التوحدية. كل هذه تولد التواضع وتنقي القلب.
أما أولئك الذين وصلوا إلى درجة الكمال فإنهم يعطون نفوسهم عشرات المرات إلى الحريق، في النهار والليل محبة بالبشر ولا يرتوون، إنهم كما قال موسى للرب: “والآن إن غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبته” ( خروج 33: 31) أو كما يقول بولس “ولقد أود أن أكون أنا نفسي مبسلاً عن المسيح من أجل إخوتي” (رومية 9: 3)، ” الذي لنا فيه الفداء مغفرة الخطايا” (كولوسي 1: 14) إني أفرح بأحزاني من أجلكم أيها الأمم، والرسل الآخرون قبلوا الموت بأنواعه فدية عن رغبات البشر بالحياة.
في منتهى كل هذه الأمور أسلم الله ابنه الوحيد إلى الصلب محبة بخليقته “وهكذا أحب الله العالم حتى أسلم ابته الوحيد إلى الموت من أجل العالم” (يوحنا 3: 16)، هذا لا يعني أنه لم يكن بإمكانه أن يخلصنا بطريقة أخرى كان بإمكانه أن يفعل ذلك إلا أنه أراد أن يدلل بصلب ابنه الوحيد عن مقدار محبته لنا، لم يرد الله أن يضغط على حريتنا بل أراد أن نقترب منه عن طريق قناعتنا، المسيح ذاته أطاع أباه محبة بنا فقبل الإهانة والحزن بفرح كما يقول الكتاب، لقد قبل الصلب عوضاً عن الفرح وتحمل الآلام واحتقر المهانة والعار لذلك قال الرب في الليلة التي أسلم فيها هذا هو جسدي الذي أعطيه من أجل حياة العالم وهذا هو دمي الذي أريقه لمغفرة الخطايا، من أجلنا قال أيضاً “أنا أقدس ذاتي” (يوحنا 17: 19) هكذا يصل كل القديسين إلى هذا الكمال فيتحدون بمحبتهم الطافحة فوق الجميع بالله، وهذا ما يسعى إليه القديسون: أن يندمجوا بالمسيح في كمال محبة القريب، وهكذا فعل آباؤنا النساك الذين نشدوا ذلك الكمال وذلك الشبه في كمال الحياة في المسيح ربنا يسوع.
يقال أن البار أنطونيوس لم يفكر أن يفعل شيئاً يفيده أكثر مما يفيد الآخرين لأنه كان يعتقد أن إفادة قريبه هي أفضل عمل يقوم به، وقيل عن الأنبا أغاثون أنه كان يود من كل قلبه أن يعطي جسده الصحيح ويعتاض عنه بجسد أكله مرض البرص، أرأيت محبة كاملة كهذه المحبة؟ دخل أحد الأخوة منسك أغاثون فوجد عنده إزميلاً أعجبه فلم يخرج إلا بعد أن أجبره أغاثون على حمله معه، وماذا أقول عن أمور أخرى كثيرة كهذه الأمور؟ كثيرون هم الذين أعطوا أجسادهم للوحوش والسيف والنار من أجل القريب. لا يمكن أن يصل المرء إلى هذه المرتبة إلا بالرجاء ولا يمكن أن يحوز المرء على محبة الآخرين إذا أحب العالم، عندما يحوز المرء على محبة الله يلبسه الله وشاح المحبة.
من يحوز على الله، عليه أن يثق بأنه لا يجوز أن يملك شيئاً آخر غير الله وأن يخلع عنه رداء الجسد، الذي يلبس العالم ويتعلق بالحياة لا يمكنه أن يلبس الله. ” إن كان أحد لا يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته… لا يستطيع أن يكون تلميذاً (لوقا 14: 26) ، لا يكفي أن تترك بل عليك أن تمقت، إذا كان لا يمكن أن يكون الإنسان تلميذاً للمسيح إلا إذا أبغض العالم، فما قولك إذا أردت أن يقطن المسيح فيك؟
عرّبها المتروبوليت الياس (معوض)
عن “مجلة النور”، العدد 2، شباط 1965، السنة 21، صفحة 38