...

مؤسّسة الضّلال أم كنيسة الأنبياء؟!.

 

 

   غير صحيح أنّ في الكنيسة، أو أنّ الكنيسة، “مؤسّسة مقدّسة”. هذه مقولة خاطئة. لا الكنيسة مؤسّسة، ولا هناك مؤسّسة مقدّسة. القداسة، في جوهرها، روح يطال الأشخاص في الجماعة ولا يطال المؤسّسة!. “أنتم هيكل الله وروح الله ساكن فيكم”. القدسيّة من حضور الرّوح في الجماعة لا من المؤسّسة ومفاعيلها. طبيعيّ أن ترى الجماعة إلى تنظيم ما لترتيب أمورها، لكنْ تبقى الجماعة هي الأساس والإطار، ولا تستمرّ الكنيسة إلّا بالرّوح في الجماعة، لا بالمؤسّسة، ولو احتاجت الجماعة، أبدًا، إلى تنظيم ما. أن تتحوّل الكنيسة إلى “مؤسّسة مقدّسة”، ومن ثمّ إلى مؤسّسات تتفرّع منها، فهذا انحراف خطير!. الوجوه هي قطب الاهتمام لا التّنظيم!. وإذا ما قلت وجهًا قلت وجهًا من وجه ربِّك. قولة المؤمن، في كلّ حال، هي: “وجهك يا ربّ أنا ألتمس”!. الكنيسة قائمة بروح القداسة. الكلّ فيها من القداسة وفي القداسة وللقداسة. بالقداسة، وحدها، تبقى وجهة الجماعة ربّها. أمّا المؤسّسة فمتى أضحت هي المرجع، مهما كانت القواعد الّتي تستند إليها، في الظّاهر، صحيحة، ومهما كانت الشّعارات الّتي تبرّر بها تدابيرها معبّرة، فإنّها تُحدث، في العمق، حيدانًا عن الله كمحور، طعنًا للعلاقة بالله، يؤول، لا محالة، إلى علاقة شكليّة بالله، أي إلى انقطاع فعليّ عنه، كحضور ثابت دائم مباشِر، يجعل أمور الكنيسة تنبثق منه وتعود إليه، بحيث تستحيل “المؤسّسة” في الكنيسة، أو قل “المؤسّسة الكنسيّة”، بديلًا عن الله، فيها كلّ الشّعارات والشّعائر الكنسيّة، ولكنْ، من دون الحضور الحيّ الفاعل لله، من حيث هو المنطلق والمرتجى في آن. “المؤسّسة الكنسيّة” تعمل، بعامّة، باسم الله، ولكنْ، من دون الله!. تستحيل بيسر خليّة سرطانيّة تضرب الخلايا الحيّة!. فكرة البابا، في الغرب، كـ”نائب للمسيح”، أقرب، في تعبيرها، عن واقع المؤسّسة، بعامّة، في الممارسة، شرقًاوغربًا، من القول بالرّاعي “إيقونة” ليسوع، على دقّتها، كما في لاهوتنا، لأنّ فكرة “النّيابة” تغيِّب، في العمق، المسيح، وهذا أدنى إلى واقع الحال!.

   الحقيقة أنّ تسليط الضّوء على ما يُعتبر كفاءة، في المؤسّسة، بدل تسليطه على وجوه القدّيسين، ينجم عنه تغييروجوديّ هائل في أداء الكنيسة!. مقياسالنّجاح يتغيّر من أداء الشّهادة الحقّ للمسيح إلى الفعاليّة الدّهريّة!. تفرغ الكنيسة من مضمونها الرّوحيّ تدريجًا، أو يصبح الرّوحيّون والرّوحيّات استثناء، وحتّى ناشزًا ومزعجًا وغير عملانيّ، فيها!. فالمؤسّسة، عمليًّا، لا تعدو كونها آلة تلتمس الثّبات والاستقرار والجدوى الدّهريّة. هذا في المبدأ. لكنّها، في حقيقتها، تهمِّش الثّبات والاستقرار والجدوى الحقيقيّة الآتية من الأمانة لله والإقامة في المسيح والعمل بروح الله. ليس ذلك وحسب، بل لا تلبث حتّى الأسس المعتمدة للمؤسّسة أن تتعرّض، عمليًّا، للتّهميش، إلى حدّ بعيد، بتأثير العوامل الفعليّة الّتي تتحكّم بسير المؤسّسة. بهذه العوامل الفعليّة، أقصد، بخاصّة، ثلاثة: السّلطة والمال والمجد الباطل. لكنْ، كلّ هذا إنّما يركّز على عبادة الذّات، لا على عبادة الله، ما يجعل الكلمة الفصل، في الواقع، لا للمبادئ، مهما كانت سامية، بل لمَن السّلطة بيده. هو يفسِّر الأمور وفق هوى نفسه. يبرزها أو يلغيها أو يستعيض عنها بما ينسجم وتطلّعاته. هواه، فعليًّا، يصير المعيار، باسم الله، لا روح الله!. بسهولة، يمكن أن تصير كلمة الله “خاضعة” له بدل أن يكون هو خاضعًا لها، في الرّوح!. أين الحدّ في كلّ حال؟. إذا لم يكن الله مِلءَ مَن في موقع “السّلطة” فالتّمييز مستحيل!. ثمّ، السّلطة تغوي، وبيسر يزعم مَن يتبوّؤها أنّ الله يتكلّم فيه!. يؤلّه توثّبات نفسه!. الشّفافية لله، في المؤسّسة، نادرة!. تتحوّل المؤسّسة إلى خدمة، إذ ذاك. ولكنْ هذا، في منطق المؤسّسة، تهديد للمقوّمات الّتي تسمح باستمرار المؤسّسة!. هذا ما يجعل “المؤسّسة الكنسيّة” أخطر مؤسّسات الدّنيا، لأنّها تعطي مَن يمسكون بزمام الأمر فيها لا سلطة إداريّة وحسب بل سلطة إيحائيّة مقنّعة بقناع إلهيّ!. هنا يمكن أن يبلغ المرء ذروة عبادة الذّات، كما عبّر القدّيس يوستينوس بوبوفيتش (+1979)، في تعليقه على عقيدة عصمة البابا، ما يعبِّر عن بلوغ الإنسان ذُرى ما تتوق عتاقته إليه، أن “البابا – الإنسان”، على حدّ تعبيره، “هو الّذي يأخذ محلّ الإله – الإنسان”!.

   متى أضحت “المؤسّسة الكنسيّة” محطّ الأنظار، من حيث إنّ لها الحقّ الحصريّ في قول كلمة الله، يتحوّل الاهتمام عن الرّوحيّات إلى النّفسانيّات والمادّيّات، لا محالة، في الوجدان. دونك دراسة اللّاهوت مثلًا. هاجس شهادة اللّاهوت يستبدّ بالنّفوس، إذا كانت مبالية. اللّاهوت، كمبتغى لسيرة القداسة، لا يعود الهاجس. يُغَضّ الطّرف عنه إلى حدّ بعيد. يُعتبر كأنّه شأن بعيد المنال، أو، ربّما، بالعكس. يُميَّع بحيث يُعتبر كلُّ المعمّدين قدّيسين، والأساتذة آباء!. أستاذ لاهوت انتفض، مرّة، عندما أورد طالبٌ قولة للقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، في موضوع عَقَديّ. قال: “ومَن هو الذّهبيّ الفمّ؟. بمَ يختلف عنّي؟. هو أب وأنا أب”!. على هذا، تلقى العِلم الدّماغيّ، في الكنيسة، في ازدياد، والوعي الرّوحيّ في تناقص!. الأوّل يميل بالأكثر إلى تهميش الثّاني!. تصير الصّلاة، بمعنى، كأنّها من اختصاص بعض الرّهبان، إلاّ طقوسًا، بديعةً، شكلاً، ولكن بلا روح!. أقول “بعض” لأنّك، في المناخ السّائد، حتّى إذا وجدت رهبانًا، فالكثرة منهم لا هُم طلّاب نسك ولا عشّاق صلاة!. المؤسّسة وجماليات الطّقوس والإنجاز الفكريّ والمادّيّ يطغى بينهم نزعةَ التّوبة والخروج من العالم اللّذين هما أساس النّسك وعشق الصّلاة!. الكنيسة المزدهرة، في الحسبان، والحال هذه، تصير كنيسة المؤسّسات النّاجحة، بالمعنى الدّهريّ للكلمة!. المعرفة عن الله تحلّ، بالأكثر، محلّ معرفة الله!. معرفة العقل محلَّ معرفة القلب!. هنا تقع الكنيسة في إشكال إذ إنّ العقل، إن لم يخضع لسعي القلب إلى النّقاوة، يصير عائقًا بين الإنسان وربّه، ضربًا من حاجز فولاذيّ!. ظاهر الكنيسة، إذ ذاك، يستحيل شعارات وطقوسًا، فيما يصير المضمون “عبادة الذّات”!. الله، إذ ذاك، يستحيل موضوعًا، ولا يعود حضورًا حيًّا تدور حوله حياة المؤمنين ويقيمون فيه!. “في المسيح”، كما نردّد!.

   الظّنّ أنّ الكنيسة لا يمكنها أن تستمرّ إلّا بالمؤسّسة ملتبِسٌ. طبعًا، إذا كانت الكنيسة، في الوجدان، قرينة المؤسّسة، إن لم نقل هي نفسها المؤسّسة، فإنّنا نحسب، لا محالة، أنّها تنهار من دونها!. أعود وأكرّر، التّنظيم في الكنيسة لا بدّ منه. ولكنْ، ليست الكنيسة تنظيمًا. قائمة هي، أوّلًا، في روح الله، ومن ثمّ بالإيمان الحيّ الفاعل بالمحبّة في الجماعة، أي في الكنيسة المحلّيّة. الموضوع موضوع محور: أيسوع هو المحور أم الإنسان هو المحور، ولو باسم يسوع؟. الرّوح هو المحور أم التّنظيم هو المحور؟. سلطة الرّعاة أو الإداريّين هي المحور أم روح الجماعة وسلوكها كجسد حيّ؟. هذا العالم هو المحور أم الملكوت هو المحور؟. المحور أنت لا تراه، ولعلّك تدّعيه، ولكنْ، من الثّمار تُعرف الشّجرة!. المسألة مسألة وعي والتزام شهادة!. بهما يتسنّى لنا أن نميّز وأن نصلح وأن نقوِّم!. الوعي وشركة الشّهادة لازمان. لا يمكننا أن نتصرّف، وأقصد كلَّ فرد في الجماعة، وكأنّنا مستقيلون!. لا يمكننا أن نعتبر كأنّ المسمَّين “رعاة” هم الّذين يتولّون شؤون الكنيسة، ولا علاقة، من ثمّ، لنا، إلّا كمتقبِّلين لما يصدر عنهم!. هذه الاتّكاليّة قاتلة!. ليس هناك أسقف، في ذاته، في الكنيسة. هناك أسقف في شعب وبإزائه. لا الشّعب يعيش على هواه لئلّا تضيع وحدة الكنيسة. الأسقف، بهذا المعنى، هو علامة الوحدة، وحيث يكون هو تكون الكنيسة. ولكنْ، أيضًا، لا أسقف يستأثر بالكنيسة ويرتع الشّعب في اللّامبالاة، كأنّه غير معنيّ بأمور الكنيسة، إذ ذاك تكون المؤسّسة الأسقفيّة قد صادرت الكنيسة ويكون الشّعب قد سلّم بالأمر الواقع، فتقع البليّة!. ولعلّ هذا هو الحاصل إلى حدّ بعيد!. وحده روح الله الفاعل في الجماعة ومعها يحفظ الاتّزان ويقوّم كلّ اعوجاج، وإلّا تطغى المؤسّسة وتفَتك بالكنيسة!.

   ولعلّ السّؤال يُطرَح هنا: إذا لم تكن الكنيسة مؤسّسة، فماذا تكون إذًا؟. حركة نبويّة، حياة جديدة، طريقًا، عبورًا!. نحن اصطُفينا، بكلّ بساطة، لنكون أمّة أنبياء لأنّنا جسد “النّبيّ الآتي إلى العالم”!. لا للمسيح مكان، في الأرض، يسند إليه رأسه ولا لنا أيضًا، وإلّا لا نكون، ولا يمكننا أن نكون، منه ولا له!. نحن بدوٌ رُحَّلٌ، في الرّوح، إلى وجه الله!. وكلّ تنظيم بيننا ينبغي أن يكون تنظيمًا كما لِمَن هم عابرون اليوم وغدًا!. الاستقرار في الفكر أو في المؤسّسة، في هذا الدّهر، يقتلنا، أو، بالأحرى، يقتل الرّوح فينا!. أرض الميعاد استحالت أرض موبقات لا لنعود “كالكلب إلى قيئه”، أو “كالخنزير إلى التّمرّغ بالحمأة”، وفق التّعبير الكتابيّ، بل لنتعلّم، كلَّ يوم، “أنّه ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية”!. ما الفرق بين خبرة ملوك إسرائيل القديم وخبرة ملوك بيزنطية والممالك المسمّاة “مسيحيّة” في الغرب؟. في العمق، الخبرة واحدة عنوانها: محبّة العالم والغربة عن الله!. خبرة أولئك أدّت بهم إلى التّلفيق وعبادة الآلهة الغريبة، لذلك حُسبوا “أمّة زانية”، وخبرة هؤلاء أدّت بهم إلى الارتداد وتبنّي الأفكار الغريبة والتّلفيق الدّهريّ!. أتُرى إسرائيل الجديد، بعامّة، أقل زنى من إسرائيل القديم؟!.

   حركة الكيان تكون حركة عبور إلى وجه السّيّد، أو لا تكون سوى حركة انطواء للبشريّة على ذاتها!. إذا ما كانت المحبّة تطرد الخوف إلى خارج، فالخوف، أيضًا، إن استبدّ بنا، يطرد المحبّة إلى خارج!. التّمسّك بالمؤسّسة ناتج خوف، وتاليًا غرور!. والخوف يطرد الإيمان. الخوف، إذ ذاك، يعزّز إيمان الإنسان بنفسه من دون الله!. فإذا ما تمسّك الإنسان بربّه، والحال هذه، فشكلًا، ليشعر بالأمان، وما يكون له أمان!. يصير له الإيمان وهمًا فيما الواقع إلحاد!. يسلك كأن الله غير موجود… باسم الله!. وهذا منتهى الضّلال!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

عن “نقاط على الحروف”، 25كانون الأول 2016

 

 

 

 

 

مؤسّسة الضّلال
أم
كنيسة الأنبياء؟!.