...

الأحد الأوّلُ بعدَ العنصرةِ أحدُ جميعِ الّذين قالوا “نعم” للمسيح!!…

 

 

   اليومَ يُدخِلُنا الإلهُ الرّبُّ يسوعُ المسيحُ في خاصيّةِ الاعترافِ به قدّامَ النّاسِ جهارًا!!.

   اليومَ يقفُ الرّبُّ في تلاميذِهِ قائلاً: “كلّ من يعترفُ بي قدّامَ النّاسِ أعترفُ أنا بهِ قدّامَ أبي الّذي في السّمواتِ”…

   اليومَ وبعد صلبِ الجسدِ الإلهيِّ الإنسانيِّ للقيامةِ والصّعودِ إلى الجلسةِ عن يمينِ الآبِ، يكشفُ يسوعُ المسيحُ سِرَّهُ لتلاميذِهِ بدءًا وللعالمِ أجمعَ التّائقِ إلى تثبيتِ ذاتِهِ في الحياةِ من دون مواربةٍ ولا تلكؤٍ ولا شكٍّ أو خوفٍ، ليعرفَ أنّه ينتمي إلى اللاّمتزعزعِ الّذي سَمَّتْهُ بعضُ الشّعوبِ “خلودًا” وأخرى جاورتْهُ “بالمطلقِ، باللاّمائتِ”… ليبقى لنا، نحنُ المسيحيّين، اسمُهُ روحَ الحبِّ، روحَ الخلقِ، روحَ الإبداعِ، روحَ الحياةِ، روحَ الكمالِ، روحَ الطّهرِ، روحَ العطاءِ، روحَ الوداعةِ، روحَ الاتّضاعِ…

   ما اعترافُ الإنسانِ أو أيِّ إنسانٍ بالرّبِّ يسوع؟!. هل يُضيفُ الإنسانُ باعترافِهِ أيّةَ خاصيّةٍ إلى الرّبِّ أو إلى الآبِ؟!… فلماذا إذًا هذا التأكيدُ الإلهيُّ على ضرورةِ الاعترافِ بهِ؟!…

   الاعترافُ هو إحقاقُ الحقِّ!!… الاعترافُ هو خاصيّةُ التّبنّي!!… تبنّي الإنسانِ، فكرًا وقولاً وفعلاً، إلهَـهُ، والنّطقِ بما أعطاهُ إيّاهُ الإلهُ!!. الاعترافُ هو قولُ كلمةِ الحقِّ وإحقاقُهُ في حياةِ الإنسانِ المائتةِ… المتزعزعةِ… وغيرِ التّائبةِ، ليصيرَ المتقلقلُ الّذي من طبيعةِ الإنسانِ، بعد السّقوطِ، هو الثّابتَ بقولِ حقيقةِ الرّبِّ بالإعلانِ!!. تاليًا ليصيرَ الإعلانُ بشارةً، والبشارةُ حياةً يحياها الإنسانُ في صلبِ حقيقتِهِ الوجوديّةِ؛ لتتحوَّلَ موجوديّتُهُ من كذبتِها أنّها غيرُ مخلوقةٍ من الإلهِ، بل بالاعترافِ به لتصبحَ إيّاهُ إن أعلنتْهُ من كلِّ القلبِ والفكرِ والقدرةِ إلهًا من الإلهِ!!…

   الكلمةُ هي الحياةُ!!…

   والكلمةُ هي الفعلُ الحيُّ المطلقُ البشاريُّ، الّذي يُلبسُ المخلوقَ عظمةَ إلهِهِ؛ لأنّهُ، إذ ينطقُ بهِ ويعترفُ بكنهِهِ في خبرةِ حياتِهِ، يتحوَّلُ الإنسانُ من طبيعتِهِ المائتةِ، فيلبسُ طبيعةَ اللاّفسادِ الّتي يُطعمُهُ ويسقيه إيّاها الإلهُ، إذ يَنطقُها الإنسانُ، مبشِّرًا بعظائمِ مجدِ الله في عمرِهِ وفي حياةِ الآخرين، الّذين، إذْ ينفتحون للسّماعِ بعد الإِصغاءِ، يصيرون شيئًا فشيئًا من طبيعةِ الّذي يحيون يوميّاتهم بذكرِ اسمِهِ القدّوسِ!!…

   والاعترافُ هو حركةُ فعلِ الحبِّ الإنسانيِّ لإلهِهِ!!.

   ويبقى عملُ القلبِ!!… ما القلبُ؟!… ما الحبُّ؟! ما البغضاءُ؟!…

*  *  *  *  *  *

   مُخيفٌ هو إنجيلُ هذا الأحدِ الأوّلِ بعد العنصرةِ!!…

   بعد الاعترافِ بالرّبِّ قدّامَ النّاسِ، تأتي، في تسلسلِ  “مطالبِ” الرّبِّ لقداسةِ الإنسانِ وتألُّهِهِ بمجدِ  ربِّهِ، خاصيّةُ الحبِّ!!…

   “من أحبَّ أبًّا أو أمًّا أكثرَ منّي فلا يستحقُني… ومن أحبَّ ابنًا أو بنتًا أكثرَ منّي فلا يستحقُني”… لكنّ الوصيّةَ الإلهيّةَ الأخيرةَ في الحبِّ الّتي نطقَها وأرسلَها لنا الرّبُّ يسوعُ قبلَ صعودِهِ إلى السّمواتِ هي… “أحبّوا بعضُكم بعضًا ليعرفَ العالمُ أنّكم تلاميذي”!! أين مجاري الحبِّ إذًا في هذه الحياةِ؟!.

   الرّبُّ الإلهُ يسوعُ المسيحُ المخلّصُ والفادي هو هو عنوانُ الحياةِ والوجودِ والحقيقةُ الوحيدةُ الّتي يطلبُها الإلهُ من الإنسانِ!!.

   وهنا يُظهرُ لنا السّيّدُ الحقيقةَ الّتي تعتملُ بها النّفسُ البشريّةُ!!.

   حبُّ الرّبِّ الإلهِ ونواميسِهِ هو إيّاه فقط!!. كما أحبَّ الإلهُ الإنسانَ أوّلاً وأخيرًا!!… فالإنسانُ هكذا لا يحيا حياتَهُ في حلقةٍ مفرغةٍ من خاصيّةِ الألوهةِ، بل يحيا عمرَهُ كلَّهُ في محورِ الإلهِ، ليصيرَ هو تاليًا إلهًا متألّهًا، من الإلهِ الواحدِ المثلّثِ الأقانيمِ!!…

   كيفَ الصيرورةُ هذه تتمخّضُ لتلقى لها موئلاً تأتيهِ وعشًّا كالعصفورِ تلملمُهُ لتلقي فيه  بويضاتِ عصافيرَ،  فراخَها، المعطاةَ لها مجّانًا من الله؟!…

   بملءِ وهجِ الحبِّ!!… بكليّتِهِ!!… بالمجّانيّةِ المطلقةِ الّتي يمنحُها الرّبُّ للّذين عرفوهُ لهفَ حبٍّ وعشقَ دمعةٍ غارتْ فيهم من بركاتِ عطائِهِ لهم في هذا العمرِ، يملِّكُهم فيه الإلهُ الحياةَ الأبديّةَ!!.

   “مجّانًا أخذتُم… مجّانًا أعطوا”!!…

   كيف يُعطي من ليسَ لهُ أو عندَهُ؟!… من ليس عندَهُ، إلاّ وحدَهُ أعمى الرّوحِ!… الصّغيرُ القصيرُ القامةِ الّذي استغرقَ في عبادةِ نفسِهِ فَغيَّمَ الرّؤيةَ عن وجهِ الإلهِ، ليرى “نرسيسًا” في ضحالةِ مياهِ قلبِهِ،  فتفتُنَهُ كذبةُ ألقِ الصّورةِ، ليرتدَّ إلى خلابةِ أناه، والإنسانُ، كلُّ إنسانٍ، يعشقُ ذاتَهُ في مرآةِ ذاتِهِ!!. لذا هكذا نبتَتِ الخصومةُ، بل التّطاحنُ بين أنا الإنسانِ وأنا الآخرِ والإلهِ!!…

   وتفجّرتِ العباداتُ مستقطبةً كلَّ طاقاتِ الإنسانِ الفكريّةِ العقلانيّةِ والنّفسيّةِ والرّوحيّةِ، إلى ضلالاتٍ وأوهامٍ وحقائقَ كاذبةٍ من صنعِ الإنسانِ!!…

   هكذا بدأ الإنسانُ، شيئًا فشيئًا، يستخدمُ أسلحةَ الدّمارِ، لتُبعِدَ الإنسانَ عن وجهِ الإلهِ، إذ تراءى له أنّ ما يعرفُهُ هو من تداعيّاتِ فكرِهِ، وإبداعاتِ خلقِهِ هو!!. فصارَ الإلهُ مغيَّبًا تاليًا، جيلاً بعد جيلٍ، في خزائنِ الثّيابِ والمكتبِ والمخطوطاتِ العتيقةِ وإيداعاتِ المصارفِ والصّحفِ وجميعِ الزّائلِ المائتِ في هذا العمرِ!!.

   من حوّلَ وجهَ الإنسانِ المخلوقِ عن الإلهِ خالقِهِ؟!…

   الإنسانُ ذاتُهُ، بامتدادِهِ في عيشِ فخِّ ذاتِهِ، في ذاتِهِ هو!!…

   وأمــات الإلهَ!!… أماتَهُ الإنسانُ الّذي خلقَهُ ليعتليَ الموتَ عرشًا له ينحرُ فيه كلَّ طالبٍ وجْهَ الإلهِ في ذريّتِهِ، الّتي سعى أن يربّيها الإنسانُ المخلوقُ على عبادتِهِ هو، تاليًا، على عبادةِ الموتِ الّذي اختارَهُ، وهو الإنسانُ، على  الحياةِ الأبديّةِ الّتي من الإلهِ وفيهِ!!…

   كيف انشطرَ الإنسانُ هكذا؟! كيف غامتْ رؤياهُ؟!… كيف أماتَ الحبَّ المتدفِّقَ له أنهارَ نورٍ وحياةٍ من لدنِ الرّبِّ؟!…

   بخلابةِ عشقِ الذّاتِ!!… بالأنا!!.

   أين الإلهُ؟!… لماذا تقاضونني عن عدمِ معرفةِ ما ليس فيَّ حاضرًا كلَّ لحظةٍ من حياتي كجسدي؟! ككياني؟! كفكري، كحسّي لكم ومعكم؟!

   وبرّأ الإنسانُ نفسَهُ أمام محكمةِ ذاتِهِ!! صارخًا: أنتَ أنتَ الإلهُ، ولا أحدَ سواكَ إلاّ أولادُكَ، ذريّتُكَ وما تنتجُهُ من هذا العالمِ!!.

   ويلي ويلي!! “من يخلّصُني من جسدِ الموتِ هذا”؟!…

   وكانت هذه الصّرخةُ عنوانَ ارتدادِ الإنسانِ للبحثِ عن حياتِهِ الّتي أضاعَها في عشقِهِ لذاتِهِ!!…

   واستجابَ الإلهُ صراخَ شعبِهِ وذريّتِهِ الّتي انكفأتْ في الكهوفِ آلافَ السّنينِ المؤلّفةِ منتظرةً لمسةَ الحبِّ الإلهيِّ!!…

   وأتى الإلهُ مستجيبًا غمراتِ صراخِ الّذين تاهوا وحيدين في مفارِقِ طرقاتِ هذا العمرِ يحيونَ لمن ولما لا يدركون وجودَهُ!!..

   وحلَّ الإلهُ وأتى الوعدُ الجديدُ!!.. “وصيّةً جديدةً أعطيكم… أن تحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتُكم” (يو ١٣: ٣٤).

   وكان البدءُ يتجدّدُ في بدأتِهِ لأجلِ الإنسانِ!!.

   لأنّه “في البدءِ كان الكلمةُ والكلمةُ كان عند الله وإلهًا كان الكلمةُ!!. هذا كان في البدءِ عند الله. كلٌّ به كان، وبغيرِهِ لم يكن شيءٌ مما كوِّنَ” (يو ١: ١-٣).

   اليومَ يومُ الدّينونةِ غيرِ المعلنةِ؛ إذ يتراكضُ كلُّ الّذين أحبّوا الإلهَ من كلِّ القلبِ والرّوحِ والقدرةِ والفكرِ ليجلسوا عن يمينِهِ، وليقفَ عن يسارِهِ الّذين يرفضون وداعتَهُ وحبَّهُ الّذي أولدَهم منهُ كلَّ انفجارِ الصّبحِ من عتمةِ ليلِ هذا العمرِ!!.

   اليومَ يُعيِّدُ كلُّ من أحبَّ الإلهَ، وقدّسَهُ الإلهُ منقيًّا إيّاهُ من وجعِ وضعفِ سقوطِهِ بالحبِّ الّذي يغسلُهُ به في المعموديّةِ وفي كلِّ برٍّ يصيرُهُ الإنسانُ بتماهيهِ مع الكلمةِ الإنجيليّةِ الخلاصيّةِ وبسكبِ الإلهِ على بنيهِ روحَ التوبةِ والدّمعةِ والحبِّ الّذي لا ابتداءَ ولا انتهاءَ له، بل يبقى فيضًا من حبِّ الابنِ للآبِ وانسكابِ الرّوحِ القدسِ على المسكونةِ حياةً لا موتَ فيها… آمين.

 

الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان

عن “تأمّلات في الإنجيل“، 26حزيران 2016

 

 

 

 

 

الأحد الأوّلُ بعدَ العنصرةِ
أحدُ جميعِ الّذين قالوا
نعم” للمسيح!!…