...

إكرام بقايا القديسين بحسب التاريخ المسيحي

إكرام بقايا القديسين بحسب التاريخ المسيحي

 

إكرام بقايا القديسين بحسب التاريخ المسيحي

أ- قدم تكريم الذخائر المقدسة:

لا يقتصر تكريم الذخائر المقدسة على الكنيسة الأرثوذكسية فحسب، وإنما تشاركها في هذا كل الكنائس القديمة التقليدية بما فيها الكنيسة الكاثوليكية. إذ يعود هذا الاكرام إلى أقدم الزمان. يشهد على ذلك كما رأينا سابقًا الكتاب المقدَّس بعهديه: القديم والجديد، وكذلك التقليد الشريف. فاكرام ذخائر القديسين ليس عادة جديدة لدى المسيحيين وإنما يعود إلى الأزمنة المسيحية الأولى، وهو تقليد مستمر في كنيستنا. ودليلنا من التقليد هو الشهيد بوليكاربوس (حوالي 156-157 ) فبقاياه توصف بأنها “أغلى من الأحجار الكريمة وأثمن من الذهب” (انظر استشهاد بوليكاربوس فصل18: 1)، فكان المؤمنون يحرصون على جمعها بكل انتباه ويكرمونها أجلّ إكرام يليق بالقديسين.

وإليك هذا النص الذي يؤكد كلامنا:

“عندما رأى الشيطان الشهيد وهو يتكلل بإكليل عدم الفساد، حاول منعنا من أخذ جسده، على رغم رغبة الكثيرين في القيام بذلك، تقرّبًا من جسده المقدَّس، فدفع نيكيتا، أبا هيرودوس وأخا آليكس، إلى مقابلة الحاكم والطلب إليه ألاَّ يسّلم الجسد، زاعمًا أننا قد نترك المصلوب، ونشرع في عبادته، وكان كلامهم بتحريض من اليهود الذين راقبونا وخافوا من أن نخطفه من النار، ولم يعلموا أننا لايمكن أن نترك المسيح الذي تألم من أجل خلاص العالم كله، حتَّى الأثمة، ولا أن نعبد أحدًا سواه. فالذي نسجد له هو ابن الله، أما الشهداء، تلاميذ المسيح المقتدرون به، فنحبّهم بسبب محبَّتهم غير المحدودة لملكهم ومعلمهم… وأمام إلحاح اليهود وضع كنديريوس الجسد في وسط الساحة وأحرقه حسب العادة. فجمعنا عظامه التي هي أكرم من الحجارة الكريمة وأثمن من الذهب، ووضعناها في مكان مناسب، راجين أن يساعدنا الرب على الاجتماع فيه كلما استطعنا لكي نحتفل، فرحين ومبتهجين بتذكار شهادته، حتَّى يكون أولئك الذين جاهدوا قبلنا بمثابة معّلمين ومدربين لكل من سيجاهد في المستقبل”.

نستنتج من هذا المقطع عدة استنتاجات أوَّلها: أن المؤمنين كانوا يميّزون بين اكرام القديسين وبين عبادتهم، لا كما يّتهم البعض الكنيسة الأرثوذكسية بأنها تعبد الذخائر، فواضح أن الكنيسة تعبد المسيح فقط وتكرّم الذخائر. ثانيهما : يشهد هذا النص أن تقليد كنيستنا القاضي بإقامة القداس الإلهي على مائدة تضم ذخائر مقدسة، هو تقليد مسيحي قديم جدًا.

ب- تطور إكرام الذخائر المقدسة:

خلال الاضطهاد المسيحي ازداد إكرام ذخائر الشهداء بشكل سريع بحيث أن الليتورجيا لم تكن مرافقة لهذا التطور حتَّى القرن الثالث، فذخائر الشهداء كانت تجمع وتدفن لكل تقي. في منتصف القرن الثالث أثبت كبريانوس القرطاجي اكرام أدوات تعذيب الشهداء بقوله: إن اجساد السجناء من أجل المسيح تقدّس سلاسلهم (الرسالة 13 )، وفي القرن الرابع خبّر باسيليوس القيصري عن الاحتفال الرسمي الذي كان يحصل في تذكار يوم استشهاداتهم. وفي روما -وخلال الاضطهاد- ارتبطت الذخائر فورًا بالطقوس الليتورجية، حيث أن اكرام الأموات كان الطقس الوحيد الذي كان المؤمنون يقدرون أن يمارسوه بحرية في روما خلال الاضطهاد في الاجتماعات المسيحية قرب القبور لتقديم الاكرام الواجب تجاه أمواتهم، وما لم يكن معروفًا حتَّى آخر القرن الثالث أن الافخارستيا كانت تقام فوق قبور الشهداء.

خلال القرنين الرابع والخامس نما اكرام ذخائر الشهداء كطقس ليتورجي وثبت لاهوتيًا في الغرب بواسطة مكسيموس التوريني (Turin) الذي اعتمد الجسد السري كمرجع للعقيدة “Mystical Body” (الوعظ 77 ). وفي نفس الوقت فتحت قبور الشهداء، والبقايا أو الأشياء التي لامست هياكلهم أو أجسادهم الحقيقية ووزّعوها بشكل بركات.

1- ممارسة اكرام الذخائر في الشرق:

اختلفت ممارسة اكرام ذخائر القديسين والشهداء بشكل عام في الشرق عنها في الغرب. ففي الشرق كانت أجساد القديسين “تنبش” (تكشف) وتقسم أجزاء وتنقل من مكان إلى آخر، كانتقال ذخائر القديس “بابيلاس” سنة 351، وفي القرن الرابع كان نقل البقايا يتم باحتفالات مهيبة.

وفي كنيستنا الارثوذكسية من القديسين من احُتفل بعيد نقل بقاياه بالاضافة إلى الاحتفال بعيد ميلاده أو موته.

ونذكر على سبيل المثال نقل بقايا القديس نيقولاوس إلى “بارى” في 9 أيار ونقل بقايا القديس يوحنا الذهبي الفم إلى القسطنطينية في 27 كانون الثاني.

ومن الجدير بالذكر العجائب التي تحصل في نقل الذخائر المقدسة ومنها هذه: “كان على قرب من الاسكندرية موضع اسمه مانوفين (Manufin) ففي هذا الموضع وجد معبد قديم مسكون من الشياطين وكان ذلك الموضع مخيفًا جدًا لأن أرواحًا شريرة كثيرة كانت تستوطنه. لكن ما أن نقل إليه القديس كيرلس بطريرك الاسكندرية ذخائر القديسين كيروس ويوحنا حتَّى ذهب عنه فجأة القوات الشيطانية جمعاء ( 9 حزيران). ولما نقل القديس لوقا الانجيلي من سبسطية إلى مدينة انطاكية يد القديس يوحنا السابق ككنز ثمين مكافأة له على تهذيبه فيها. ومنذ ذلك الحين حفظت يد السابق المقدسة عند مؤمني انطاكية في تكريم عظيم وتمّت بها معجزات خطيرة وفيرة (7كانون الثاني).

2- ممارسة اكرام الذخائر في الغرب:

“اختلفت ممارسة اكرام الذخائر في الغرب لأن قانون الثيودوسيان (الذي أصدره الامبراطور ثيودوسيوس الثاني في العام 435 م) كان يعاقب وبقساوة من ينبش القبور لأنه يعتبر أن نقل البقايا وكشفها هو انتهاك وتدنيس لحرمة القبور. والبابوات دافعوا عن هذا الرأي بقوة واعتقدوا أن نقل بقايا القديس أمر شاذ ولايسمح به إلا لأسباب قاهرة وجوهرية، ولكن هذه القساوة ما لبث أن خّفت في القرن الثامن حتَّى سمح البابا بولس الأول ( 757- 567 ) وباسكال الأول ( 817 – 824 ) بنقل عدد كبير من البقايا وازدادت هذه الممارسة بشكل سريع ونتيجة ذلك بدأوا في ايطاليا بتقسيم أجزاء من أجساد القديسين وتوزيعها. وفي عهد شارلمان تقرّر إكرام البقايا وهذا الأمر الأخير أثر في الاقتصاد والتطور الاجتماعي في Pilgrinages ” وأصبح مرفقًا “بزياح عالم الغرب”. 

3- ممارسة اكرام الذخائر بعد حرب الأيقونات:

في الشرق، وبعد الصراع بين مؤّيدي الأيقونات ومحاربيها تطور اكرام بقايا القديسين والأيقونات كذلك. فالقديس يوحنا الدمشقي دافع عن عقيدة اكرام بقايا القديسين في الشرق مستندًا إلى تعليم: أن الله أعطى بقايا القديسين للكنيسة كمعنى خلاصي وهذا السبب ضروري جدًا لنقدّم لها الاكرام كممثلة القديسين، أصدقاء المسيح، أبناء ووراثي الله. فلذلك اكرام البقايا هو بالحقيقة إكرام لله. وهذا الرأي أصبح نقطة انطلاق جديدة في الفكر الأرثوذكسي بشكل عام مع العلم أن بقايا القديسين تأخذ اكرامًا ثانويًا من الاكرام المعطى لله.

أما الهراطقة كالمانويين (Manichianism) فحاربوا هذا الاكرام. في القرن الحادي عشر أصبح اكرام الايقونات أهمّ من بقايا القديسين بينما تحوّل لاهوت بقايا القديسين إلى شيء تقليدي (احتفالي). أما في القرن السابع عشر فاهتم اللاهوتي الأرثوذكسي استفانوس يافورسكي اهتمامًا شديدًا بهذه المشكلة.

4- ممارسة اكرام الذخائر بعد الحروب الصليبية:

نما في الغرب أيام الصليبيين بشكل خاص اكرام الذخائر وخاصة في السنة 1204 بعد احتلال القسطنطينية إذ وقع عدد كبير من البقايا بيد القوات اللاتينية واستولوا عليها وكذلك الحال في انطاكيا، أورشليم وآديسا، وأرسلوا هذه البقايا لإغناء كنائس اوروبا الوسطى، ويبرر اللاتينيون هذا التصرف بأنه لم يهدف التجارة بل الاغتناء بها لقيمتها الباهظة.

ج- تحديدات المجمع المسكوني السابع وبعض الآراء المحلية في ذخائر القديسين:

إن المجمع المسكوني السابع الذي أقيم في سنة 787 يسمي ذخائر القديسين “ينابيع الشفاء” ويسوم الذين لا يكرمونها القصاص. فقد قال: “إن ربنا يسوع المسيح منحنا ذخائر القديسين ينابيع خلاصية فائضة بمختلف الاحسانات على الضعفاء. ولذلك فالذين يجرؤون على رفض ذخائر الشهداء، وقد عرفوا صحّتها وحقيقتها، فاذا كانوا أساقفة أو إكليروسًا فليحطوا، وإذا كانوا رهبانًا وعالميين فليحرموا المناولة (اعمال المجمع الثالث والسابع).

وهذا المجمع المسكوني السابع عينه حدّد أن توضع الذخائر المقدسة في الكنائس وتبخر متوعدًا بالحط من الرتبة الاسقفية في حال عدم القيام بذلك إذ قال في قانونه السابع: “إننا نحدد أن يتمم بالصلاة المعينة وضع ذخائر الشهداء المقدسة في تلك الكنائس التي تكرست بدون أن توضع فيها يوم تكريسها. والأسقف الذي يحتفل من الآن بتكريس كنيسة بدون ذخائر مقدسة فليحط كمتجاوز التسليمات الكنائسية).

إن مجمع غنغرة المكاني الذي أقيم في سنة 343 في قانونه العشرين ابسل للحرم أولئك الذين كانوا يستنكفون عن ذكرى الشهداء فلم يكونوا يجتمعون للاحتفال بالصلوات تكريمًا للشهداء في تلك الاماكن الموضوعة فيها ذخائرهم المقدسة. إن أمثال هؤلاء المبتدعين عرفوا باسم الافستاتيين وكانوا يزدرون بالذخائر الشريفة ولا يأتون إلى تلك الكنائس الموضوعة فيها. ولمّا دحض آباء المجمع القديسون مزاعم الافستاتيين الكاذبة وفّندوها وأبسلوهم للحرم مع جميع من ضارعوهم بالآراء الملتوية شرعوا في اجتماعاتهم: “إن من هفت به الغطرسة فكره وازدرى اجتماعات تكريم الشهداء والصلوات وذكرياتهم التي تحتفل بها: فليكن تحت الحرم” (القانون العشرون).

أما المجمع القرطاجّني المكاني الذي أقيم سنة 401 فقد أمر في قانونه السابع والثمانين بنقض المذابح (الهياكل والكنائس) التي لم توضع فيها ذخائر الشهداء. وهكذا تشهد بتكريم الذخائر المقدسة المجامع التي اجتمعت في الشرق وتشهد به أيضًا مجامع الغرب. وقد صدفنا عن ايراد شهادتها لأن في ما ذكرناه غاية للمؤمن أما لغير المؤمن فمضاعفة الشهادة إنما هي عقيمة لاتفيد.

 

المصدر: www.orthodoxonline.org

 

إكرام بقايا القديسين بحسب التاريخ المسيحي