...

يا فرحي، يا نوري!

 

 

 

… ويمرّرون نارَ النّورِ على وجوههم؛
فيغمرهم فرحٌ عميم.
“خبرة شعلةِ سبت النّور”.

 

   بعدما جاء الختن، بعدما جاء العريس، بعدما جاء قبلة العين، بعدما جاء النَّفَس، لم يعد هناك حزن. هناك فرح. “فرحي هذا قد تمّ”، قال يوحنّا، صديق العريس. يسوع، على الصّليب، قال “قد تمّ”، وأسلم الرّوح؛ ويوحنّا، وهو على وشك أن يعلَّق على الصّليب، بمعنى، يصرّح: “فرحي قد تمّ”. الفرح لا يأتي نتيجة أحداث، مع أنّ أعظم الحدث قد تمّ. الفرح يأتي لأنّ يسوع هو الفرح. إذ يعطي النّاس فرحًا، يعطي نفسه. بكلام آخر، يسكب نفسه، محبّةً، في قلوب النّاس. الفرح مرتبط بالمحبّة الإلهيّة. الإنسان، بعد السّقوط، لم يعد يعرف الفرح، لا فقط لأنّه نُفي من الفردوس إلى هذه الأرض، وبات يقيم في الشّقاء والتّعب؛ بل لأنّه، في الدّرجة الأولى، أدار ظهره لله، وارتحل ليهيم على وجهه، في التّاريخ!.

   الإنسان كان، أبدًا، بعد السّقوط، يبحث عن الفردوس المفقود. الأدقّ من القول إنّ آدم طُرد من الفردوس هو القول إنّ آدم خَرج، من ذاته، من الفردوس؛ وبخروجه، أخذ يبحث عن الفردوس في نفسه!. ما هي الأهواء، في نهاية المطاف؟ الأهواء، في نهاية المطاف، هي أدوات استخدمها الإنسان، ليستعيد بها فردوسه المفقود!. كلّ هوى من أهواء الإنسان وعْدُ فردوسٍ، إنّما وعدٌ كاذب!. الأهواء، بمعنى، صارت بديلاً، في حياة الإنسان، عن نعمة الله، الّتي كانت توفّر للإنسان أن يكون في عشرة الله، ومن ثمّ أن يتمتّع بالفردوس!. الأهواء، إذًا، هي عوض النّعمة الإلهيّة. الإنسان من دون أهواء، بعدما سقط، لم يكن ممكنًا له أن يحيا!. لقد بات بحاجة إلى الكذبة، لأنّ الكذبة وفّرت له شعورًا بأنّ لحياته معنى!. لذلك، أهواء الإنسان، بعد السّقوط، باتت ضرورة للإنسان، وإلاّ يموت!. إنسان السّقوط، في قرارة نفسه، يعرف أنّ كلّ ما تحت الشّمس باطل. ومع ذلك، يستمتع بكلّ ما تحت الشّمس؛ لأنّه، إن لم يفعل، يموت أسى!. ثمّة ثنائيّة تولّدت، في قلب الإنسان، إثر السّقوط، جعلته، في آن، يدرك أنّه في الكذب؛ ولأنّه كان محتاجًا إلى الكذب، أخذ يصدّق الكذب؛ كمثل مَن يدمن الخمرة، يعرف أنّها تؤذيه؛ ومع ذلك، تعطيه مذاق المتعة والخَدَر، وتلقيه في مدى الأحلام!. وهذا كلّه كان الإنسان بحاجة إليه لينسى!. الإنسان ينسى حقيقته العميقة، الّتي هي أكبر من أن يتمكّن من استيعابها!. يريد أن ينسى؛ لذلك، يلقي بنفسه في حكاية كذوب!. هكذا، أدّى السّقوط بالإنسان إلى بناء حضارة الكذب، الّتي أخذ يتعاطاها، باعتبارها الجواب عن الألم العميق، الّذي يكدّه، وكان يمكن أن يقتله، لو لم يسرح في عالم الوهم والخيال!. كلّ ما ليس من مسيح الرّبّ هو مسعى للهروب!. يهرب الإنسان من واقعه العميق إلى واقع لا قوام له!. هذه قصّة الحضارة!. الحضارة، في عمقها، هربٌ وموت، وهي لا تغذّي الإنسان، إلاّ بما يمتّ إلى الخيال؛ تعطيه أن ينطلق في رحاب الخيال ما طاب له، ليسرح في النّشوة!. لذلك، صدح الشّاعر بالقول: “داوني بالتّي كانت هي الدّاء”. الإنسان، منذ السّقوط وهو يبحث عن الفرح المفقود. يقول “هذا فرحي”، فيأتي إليه، ويجده مُخيِّبًا!. لا فرحٌ لا في الأكل، ولا في الشّرب، ولا في المال، ولا في القنية، ولا في تعظّم المعيشة، ولا في إطلاق العنان لكلّ ما للجسد!. كلّ هذا وهمُ فرح!. كلّ هذا فرح في الكذب!.

   أيضًا وأيضًا، هذه قصّة الابن الشّاطر، الّذي انطلق إلى العالم الّذي خلقه في عقله، وذهب في إثره، راغبًا في أن يلتقط التماعات الفرح في العيش المسرف الّذي سلك فيه. لكن، كلّ شيء أقبل عليه كان يتبدّل، ويهوي، ويفرغ، وكأنّه غيمة صيف!. وكلّ ما كان يقبض عليه كان، كحبّات الرّمل، ينسلّ من بين أصابعه. لذلك، كلّ الّذين يطلبون الفرح حيث لا فرح، عمليًّا، يسيرون من خيبة إلى خيبة إلى خيبة، من إحباط إلى إحباط إلى إحباط!. وكلّما ازدادت خيبات الإنسان وإحباطاته، استغرق أكثر في الأفراح الكاذبة!. لو كان الإنسان قد بلغ الفرح، لما احتاج، بعد، إلى مغامرة ثانية، وثالثة، ورابعة… حتّى يستنفد نفسه، ويستهلك جسده وروحه. توقه كان ليكون إلى الفرح الّذي قاله يسوع لتلاميذه: “سأراكم، أيضًا، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يوحنّا 16)!. لذلك، قصّة الإنسان قصّة كذب وخيبة. الابن الشّاطر أدرك هذا الأمر، في لحمه ودمه؛ ما جرى التّعبير عنه بالقول إنّه صار راعيًا للخنازير. تلك الأحلام، والأوهام، والطّموحات، والخيالات، والتّصوّرات، ما هي إلاّ خنازير فكريّة، يطعمها الإنسان روحه، لا فقط لحمه ودمه؛ وتكون النّتيجة أنّها تضرب، في عمق نفسه، إحساسه بالكرامة!. ليس أقسى على الإنسان من أن يفقد إحساسه بكرامته كإنسان!. لهذا، في الحقيقة، يكذب ويكذب، ويبني أوهامًا وأحلامًا!. وكلّ ذلك بدافع قوّة كرامة نفسه، تلك الكرامة الّتي هي من بقايا خِلقة الله له أنّه جعله على صورته ومثاله!. ومن ثمّ، الإنسان في قرارة نفسه بحاجة إلى الشّعور بالكرامة، لأنّه بحاجة إلى الشّعور بأنّه شيء من إله، لأنّه خرج من الله. لا يمكن الإنسان أن يتحرّك في أيّ اتّجاه، إذا ما فقد إحساسه العميق بالكرامة الإنسانيّة!. الإنسان لا يقدر أن يكون كالحيوان. الابن الشّاطر اكتشف، أخيرًا، أنّ سعيه وراء الأوهام الّتي صنعها، والأهواء الّتي اخترعها، واستأسر نفسه لها، لا تنفع شيئًا!. اكتشف أنّه تراب ورماد!. ولا كرامة للتّراب!. إذ ذاك، اتّجه ذهنه صوب ربّه، لأنّ الكرامة لا يستمددها الإنسان، في الحقيقة العميقة، من ذاته، بل من الّذي خلقه!. لذلك، تاب، عاد إلى نفسه، ومن ثمّ إلى أبيه!. بالتّوبة، أخذ يسلك طريق الحزن البهيّ، الّذي بلّغه إلى الفرح؛ إذ ما إن وصل إلى أرض أبيه، حتّى ألقى أبوه بنفسه على عنقه، وقبّله، وأخذه ونادى أنّ العرس حان له أن يبدأ، لأنّ العريس جاء. أجل!. الله هو العريس. لكن، كلّ واحد منّا عريس من العريس؛ لذلك، يقيم له الرّبّ الإله، شخصيًّا، مائدة، ويذبح له العجل المسمّن، ويلبسه كلّ ما يتزيّا به من أزياء العريس: حذاء للرّجلين، وخاتمًا للإصبع، وثوبًا من نور؛ “لأنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاًّ فوُجد… لذلك كان ينبغي لنا أن نفرح”!. هكذا، بصورة تلقائيّة، بعودة الابن الشّاطر إلى أبيه، عاد إلى الفرح!. في كلّ غيابه عن أبيه، لم يعرف طعم الفرح؛ لأنّه، لمّا غادره، غادر فرحه؛ فغادره الفرح!.

   العريس، اليوم، يقيم في وسطنا، ليجعل من كلّ واحد منّا عريسًا!. السّماء والآرض تمتلآن عرائس!. العرس ليس، فقط، علامة الفرح، بل علامة الحبّ، أوّلاً!. البشريّة، متى امتلأت من محبّة الله، امتلأت فرحًا، وأتت إلى عرسها الأبديّ!. الإنسان، كلّ إنسان آمن بيسوع المسيح، يُعطى أن يصير عريسًا إلى الأبد!. يُعامَل كعريس، يقارَب كعريس، يُغمَر بالفرح، يُغمَر بالنّور!. الّذي عاين وسمع هذا ينطق بما عاين وسمع، ليشهد، لكنّ شهادته قلّ مَن يقبلها!. ومَن قبل شهادته، فقد ختم أنّ الله صادق!. لذلك، عرس الشّهداء مستمرّ، لأنّنا باقون، إلى المنتهى، كما في غربة!. “إلى خاصّته جاء، وخاصّته لم تقبله”، “إن كانوا قد اضطهدوني، فسيضطهدونكم أنتم أيضًا”!. لكن، “أنا هو الطّريق، والحقّ، والحياة”، “مَن يتبعني، فلا يقيم في الظّلمة، بل يكون له نور الحياة”، آمين.

 

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عظة السّبت الجديد 7 أيّار 2016

 

 

 

 

 

 

 

يا فرحي، يا نوري!