...

الفرح والإيمان أو فرح الإيمان

 

 

الإخوة والأبناء الأعزاء،
سلام الله ونعمته ومحبته لتكن مع الجميع، العائلات والأولاد والكبار والصغار.
أريد أن أنقل الى محبتكم ما عشته برفقة صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق خلال زيارته للكنيسة الأرثوذكسية الرومانية. وقد لمست خلال الزيارة أبعاد الفرح في الإيمان والتعزية الروحية في الحاضر، وفي سرد الحوادث التاريخية ضمن أبعاد علاقة كنيستنا الإنطاكية الأرثوذكسية بالكنيسة الرومانية الأرثوذكسية.
من اللحظة الأولى وبسبب العدد الكبير للكهنة الشباب الذن التقيناهم في المطار عرفنا أن الكنيسة بالفعل عمود الحق وقاعدته، ولهذا لا تقوى عليها أبواب الجحيم. ويرمز للكنيسة دائماً بشجرة السنديان التي تتجدد أوراقها دائماً. فبعد الحكم الدكتاتوري المادي للطاغية شاوشيسكو وتعرضه للكنيسة بأبشع صور الإعتداءات الشخصية والجماعية والماديّة والروحية، شعرنا بأن هذا الشعب، أي الشعب الروماني الأرثوذكسي قد تذوَّق تماماً حلاوة الثبات والإنتصار بيسوع المسيح. فها هم الشباب يملأون الأماكن الفارغة والأماكن القيادية في الكنيسة بخطوة لا مثيل لها لإستعادة الهويّة الحضاريّة للشعب الروماني. لقد شعرنا بفرح وتعزية الإيمان بكلماتهم الأولى ونحن في مطار بوخارست، وقد خاطبوا البطريرك بلغة التاريخ الذي يتدفق حضوره في الحاضر. وكان بهاء الإيمان وتأثيرُهُ مستمرٌ تيارُه إستمراراً لا ينقطع. دخلنا الفندق الذي تحوّل من مبنى عسكري الى فندق رائع في الجمال والتناسقِ وتنوعِ الخدمات.
كان اللقاء مع صاحب الغبطة البطريرك دانيال معزياً لأنه بكلماته وترحابه أشعرنا بالموقف الأرثوذكسي من الضيف أنه في مكان المسيح، ولهذا كثيراً ما يعتمد الرهبان في فضائلهم على فضيلة الضيافة والكرم والعناية بكل صاحب حاجة. ما فارقت الإبتسامة وجهه، كما أنَّهُ كان حريصاً دائماً على إعطائنا الإحساس بأننا في بيتنا وفي كنيستنا. تجلى ذلك بكرم موائده، وبتنوع ترتيبها وجمال الفن فيها. فمن أشياء بسيطة صنعت أنواع كثيرة، ولكن بفنٍ وذوقٍ لا ينتقل بالكلمات بل بالرؤية والخبرة.
في مجال الفرح في الإيمان، يعبر الرومانيون عن هذه الحقيقة بجمال كنائسهم، والفرح البادي على وجوه القديسين فصورهم تدل على أنهم في القيامة بعد مرحلة الجهاد، ويعبر عن ذلك بفرح الألوان، ودقة الحفر على الخشب، وإظهار الوجوه الراضية. بينما نحن في كنائسنا نعكس بفقرها من الأيقونات والأدوات الكنسية ما يريد غير المؤمنين أن يعلموننا إياه عن الحزن في الإيمان، وأن الدين يفرض التقشف الإجباري، والفضائل تكتسب بالحرمان القسري واللاحريّة، وبالسيطرة السلبية على إمكانيات الجسد، ومعطيات الطبيعة. لقد رأينا في الكنيسة الرومانية أن الإيمان بالفعل يأتي بالفرح والشكر لله، والسعادة في حضوره لأن الله قد أعطانا هكذا نعم عظيمة ومواهب غزيرة. ولا يمكن لشيء أن ينزع منا هذا الفرح، ولا هذا التمتع بكل لياقة وترتيب تحت أجنحة محبة ربنا يسوع المسيح. لقد شعرنا بفرح الرهبان بحياتهم التي يقضونها في الصلاة والعمل الجاد والشاق وإضافة الغرباء. يعملون لكي لا يحتاجوا الى أحد. ويقرون بذلك أنهم ليسوا بحاجة لشيء إلا لنعمة ربنا يسوع المسيح، ويجدون فرحهم به.
لقد تركت لنا الزيارة فرحاً داخلياً، وشدّدت فينا الثقة بأن هذا الإيمان الذي إنطلق من بلادنا وحمله أناس غير حاصلين على شهادات علمية بل أبسط الناس، صيادين، مزارعين، فلاحين، رعاة ماشية. قد غيّر شعوباً بأسرها وأطلقها نحو الحضارة والتمدن ووعي الأشياء كما تستحق أن تفهم وتستوعب، وغيّر مفاهيم إنسانية وحضارية عديدة.
خطر على بالي سؤال كتبت عنه سابقاً، وهو ما الذي يدفع هؤلاء الشباب والشابات من أعمار مختلفة، ومستويات ثقافية عالية، ومكانات إجتماعية متعدِّدة أن يتركوا كل شيء لينتموا الى يسوع المسيح بالطرق التي يظنها الناس إنها صعبة السلوك، لو لم يكونوا قد تذوقوا عبر تاريخهم السياسي والإجتماعي والإقتصادي والروحي والفكري غنى المواهب التي أعطاها الله لأسلافهم وورثوها هم عنهم. وأعتقد أن أباءنا وأمهاتنا الذين يظنون أن من ينتمي للخدمة تحت أجنحة محبة يسوع المسيح قد إنتهت حياته ووقع في الحرمان والبطالة وعدم الإنتاجية. نعم يمكن أن يصيبنا هذا الفهم، وذلك بسبب إنقطاع التيار الروحي عن كنيستنا، وخاصة التيار الروحي المشرقي الأرثوذكسي، ووقوعنا تحت سيطرة تيارات روحية ومفاهيم فكرية غربية أو مادية، أو فكريّة إلحادية، أي وقعنا في مشكلة قصر النظر وما عدنا نرى أبعد من أنوفنا ما عدنا في حال البنوَّة لله لنرى وندركما هو أبعد مما يقع تحت الحواس. مع أنَّ إيماننا المسيحي لم يحفظ لنا فقط هويتنا الدينيَّة بل حفظ لنا خطنا المسيحي ضمن التيار الحضاري العام في المنطقة. وإذا لم تعد الثقة الى نفوسنا وعواطفنا سنبقى قطعة أثريّة في متحف تاريخ الزمن الماضي نجتر ما فيه، ونغيب بالكلية عن تيار الإبداع والإنطلاق نحو المستقبل.
أسأل الله أن يعطينا هذا الفرح، وأن ينبع في نفوسنا تعزية اللقاء مع ربنا يسوع المسيح لكي نكون له شهوداً لا يترددون في كل المجتمعات حيثما حللنا، لأننا بدون تذوق هذا الفرح ضمن تجربة الخبرة الواقعة تحت منظار الحواس الروحية لا يمكننا أن نثبت فيه، ولا أن نكون شجعاناً في الشهادة له، ولا أن ننقله هو واقعاً متجسداً، بل نبقى ضمن الفلسفة وإديولوجيات الكلام والتنظير، أي ما لا ينتقل من القلب الى القلب.
أسأل الله أن يحمي بلادنا من كل شرٍّ ومكروه، وأن يبعد عن أوطاننا كل المخططات الخبيثة التي ليست لصالح الناس وفرحهم وثباتهم في أرضهم. وبمناسبة الأعياد الكريمة أعياد القديسين العظام، أصلي لأجلكم لكي تكونوا بكل هناء وسرور، والى أعوام عديدة.

باسيليوس، مطران عكار وتوابعها

عن “الكلمة” الصادرة عن كنيسة طرطوس، مطرانية عكّار، العدد 50، السنة 13،  الأحد 14/12/2014

 

الفرح والإيمان أو فرح الإيمان