...

ماذا حصل ليل الثلاثاء 29 أيار 1453؟

 

 

كان الروم (أي الروم الأرثوذكس) يعتزّون بأن عاصمتهم القسطنطينيّة كانت وريثة الأمبراطوريّة الرومانية العظيمة، وكانت الأمينة على تقليد كنسية المسيح. وكانوا في كل مرةٍ تُخاض ضدّهم حربٌ، يُسارعون إلى السيّدة شفيعة المدينة، ويرفعون أيديهُم وقلوبهم صوبها، وهُم واقفون في كاتدرائيّة آييا صوفيا، أكبر وأقدم كنيسة في العاصمة، ويُنشدون للسيّدة والدة الإله ترتيلةً يرفعونها بأفواههم وحناجرهم عن مدينة القسطنطينيّة يقولون فيها للسيّدة: «إني أنا “مدينتَكِ” يا والدةَ الإله، أكتُبُ لكِ راياتِ الغلبة يا جُنديّةً مُحامية، وأُقدّمُ لكِ الشكرَ كمُنقذةٍ منَ الشدائد، لكن، بما أن لكِ العزّةَ التي لا تُحارَب، أَعتقيني من صنوف الشدائد حتى أَصرُخَ إليكِ: إفرحي يا عروسًا لا عريسَ لها».

هذه كانت الحال حتّى آن الأوان وأتت الساعة وصفر القطار.

ففي ليل الثلاثاء 29 أيار 1453، حصل ما لم يكن في الحسبان: سقطتْ أُمُّ الكنائس في يد غُزاةٍ غرباء لم يُبقُوا فيها صليبًا أو بطريركًا أو كنيسةً أو ديرًا أو كاهنًا أو راهبًا أو راهبةً، وعاثوا فيها قتلاً وتدميرًا، وقيل إنّ عبارة «صار الدمُ للرُكب» تحقّقت فعليًا داخل كنيسة آييا صوفيا التي كان التجأ إليها الألوف من سكّان المدينة الذين أمضَوا آخر ساعاتهم فيها رافعين أكُفّ الضراعة إلى مسيحهم «الرب العزيز والجبّار، الرب الجبّار في القتال» الذي ما خذَلَهُم مرةً، وعَوّدَهُم دائمًا على نُصرتهم في كل حربٍ خِيضت ضدّهم حتّى ذلك اليوم. قيل أيضًا عن تلك الليلة إن دماء المصلّين في آييا صوفيا اختلطت بدم المسيح، فما عُدتَ تعرف مَن المقتول، أهُم حاملو اسمِ المسيح، أم هو المسيح عينُه الذي أتى إلى العالم نورًا ليضيء الظلمة.

في ذلك الليل، سقطت عاصمتُنا دون أن يهُبّ لنجدتها أحدٌ من هذه الأرض، وظنّ المؤرّخون (على أشكالهم) أن السماء أيضًا تخلّت عن مدينتها فلم يُبادر “مَن” في السماء إلى إنقاذ القسطنطينيّة.

ولكن المؤمن «الرائي» يعرف أن المشهد كان يُرى من العلاء بشكل مُغاير لما يراه أهلُ الأرض بعيونهم الترابيّة التي «تنظُر ولا تُبصر». فلقد طلع الصباح التالي على «سماء جديدةٍ وأرضٍ جديدةٍ لأن السماء الاولى والارض الاولى مضتا، والبحر (الشرّ) لا يوجد في ما بعد»… طلع ذلك الصباح على «مدينةٍ مقدّسةٍ، اورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله، مهيأة كعروس مزيّنة لرجُلها»… طلع ذلك الصباح «وصوتٌ عظيمٌ من السماء قائلا: هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكُن معهم وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم، وسيمسحُ اللهُ كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد، لأن الأُمور الاولى قد مضتْ»… في ذلك الصباح، «قال الجالس على العرش: ها أنا أَصنع كل شيء جديدا…، ثم قال: قد تَمّ. انا هو الألف والياء، البداية والنهاية، انا أُعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانًا. من يَغلب يرثُ كل شيء، وأكون له إلهًا وهو يكون لي ابنًا» (رؤيا 21).

في ذلك الصباح، بعد المعركة الأرضيّة الفاشلة، فهمتْ كنيسةُ الروم أن عاصمة الله في الكون ما عادت من تراب وحجر، ولا يراها سوى المؤمن الرائي، لكونه يعيش فيها منذ الآن (القديس إفروسينوس الطبّاخ –عيده في 11 أيلول- كان يعيش في الفردوس مُذ كان راهبًا على الأرض). أدركتْ كنيستُنا في ذلك الصباح أن أكبر عاصمة للكون هي «القلب المتخشّع المتواضع»، «القلب النقيّ» الذي يخلقه الله في الإنسان، ذاك القلبُ الذي استحال عرشًا يتربّع عليه المسيح ويُشعّ منه الإيمان العميق وتلتهب فيه الصلاة الحارّة ومحبّة الرب والقريب والالتصاق بالمسيح الرب والاقتداء به.

بعد سقوط القسطنطينيّة، أدركت كنيستُنا عُمق الملكوت، وامتشقت إلى ولوج عتباته المقدّسة، فما عادت أفواهُنا وحناجرنا تنوب عن مدينة القسطنطينيّة إذ ترتّل: «إني أنا “مدينتَكِ”…». بتنا، كلُّ واحدٍ من جماعتنا العابدة يرفع، بالأصالة عن نفسه، ترتيلةً من عاصمته، قلبه التائب، عاصمة الله في الأرض: «إني أنا “عبدَكِ”…».

ولقد درجت العادة في كنيسة المحيدثة، منذ قدّاس 29 أيار 1995 الذي شاركتْ فيه شخصيّات أرثوذكسيّةٌ لبنانيّة وممثّلون عن السفارة اليونانيّة في بيروت، أن تحتفل في مثل هذا التاريخ سنويًّا بالقداس الإلهي «لراحة نفوس الذين سقطوا دفاعًا عن إيمانهم، والذين استُشهدوا في الكنائس» (هكذا نقول حرفيًّا)، وفيه نشدّد على ما علّمَنا إياه معلّمنا الإلهيّ أن «اطلبوا ملكوت الله وبرّه» (متّى 6: 33) أوّلاً، دون سواه، كما طلبه في تلك الليلة الداميةِ أسلافُنا، فاستجابهم فورًا، فأدركوا ما لم تُدركه الظلمةُ.

 

المراجع:

1-الكتاب المقدّس.

2-مقالة عنوانُها «لماذا مديح السيّدة» نشرتُها في نشرة «رعيّتي» (العدد 16، الأحد 17 نيسان 2005).

3-سيرة القديس إفروسينوس الطبّاخ (11 أيلول).

الأب ملحم (الحوراني)

خادم رعية المحيدثة (جبل لبنان)

 

 

 

 

 

ماذا حصل ليل الثلاثاء 29 أيار 1453؟