...

الإيمان والدّم الجديد!.

الإيمان والدّم الجديد!.

الإيمان والدّم الجديد!.

نقيم، اليوم، يا إخوة، عيدًا للقدّيسة العظيمة في الشّهيدات بربارة، وللقدّيس يوحنّا الدّمشقيّ. هذا الإنجيل، الّذي تُلي على مسامعكم، يُقرأ، عادة، في تذكار الشّهيدات. كأنّ القول هو إنّ المرأة تُشفى، إن التصقت بالرّبّ يسوع، وسمعت كلامه. هذا، بمعنى، ما فعلته مريم أخت لعازر، حين جلست عند قدمي الرّبّ يسوع تسمع كلامه. من جهة ثانية، المرأة هي رمز الأرض. الأرض، عند الإغريق، قديمًا، مجسَّمة بالإلهة “چِيا” (Gaea)، أمّ وزوجة “أورانوس” (Uranus)، أي السّماء!. عمليًّا، بإمكاننا أن نرى أنّ هذه المرأة، النّازفة الدّم، هي صورة عن الأرض، عن البشريّة جمعاء، الّتي ما فتئت تنزف، منذ السّقوط. الدّم هو علامة الحياة. في العهد القديم، كانت الحياة تُعتبَر في الدّم. فإذا ما كان الإنسان في وضع النّزف، فهذا معناه أنّه يموت باستمرار. الإنسان، منذ مولده، تبدأ حركة الموت فعلها فيه. صحيح أنّ الحياة تتجدّد، يومًا بعد يوم؛ لكنّ هذه الحياة، بطبيعتها السّاقطة، أصبحت مائتة، تسير بالإنسان نحو الموت بتواتر!.
الفترة الّتي قضتها هذه المرأة وهي تنزف كانت اثنتي عشرة سنة. هذا رقم كامل. الإنسان يبقى في وضع النّزف، إلى أن يحين زمان افتقاده. ماذا يعني هذا القول؟ طبعًا، زمان افتقاد الإنسان ليس اعتباطًا. إنّما الرّبّ شاء أن يبقى الإنسان في وضع النّزف، بعد السّقوط، حتّى ينمو بالألم المدعَّم بنعمة الله. نعمة الله، في كلّ الأحوال، لا تغادر الإنسان. تعمل فيه بطريقة سرّيّة. هي محبّة الله تفعل ذلك. لولا نعمة الله، لما كان الإنسان قادرًا على أن يثبت في الحياة يومًا واحدًا. إذًا، هناك تدبير من قبل الرّبّ الإله، الّذي لا يُسَرّ بألم الإنسان، ولا بعذابه، ولا بموته. لكن، بعدما استبان آدم أعجز من أن يثبت في الحالة الفردوسيّة الّتي كان فيها، كان لا بدّ للرّبّ الإله من أن يبتدع طريقة أخرى، لكي يبثّ، في الإنسان، التّوق إلى الفردوس، من خلال الألم، من خلال الموت، من خلال الصّليب، الّذي كان، إلى يسوع المسيح، علامةً للّعنة والموت. لكنّ الرّبّ يسوع، إذ اقتبل لعنة الموت في جسده، عن إرادة، طبعًا، جعل الصّليب مشبَعًا بفردوس محبّته. هكذا، الصّليب، الّذي هو علامة الألم والموت، جاء بالفرح إلى كلّ العالم. الرّبّ يسوع سكب حبّه، كاملاً، على الصّليب. المرأة كابدت كثيرًا من أطبّاء كثيرين. الإنسان في سعي دؤوب لمقاومة الألم والموت. كلّ حياته صراع ضدّ الألم والموت، إنّما من دون جدوى. كابدت هذه المرأة، كابدت البشريّة كثيرًا من أطبّاء كثيرين. الإنسان يظنّ أنّه يلقى جوابًا من هنا أو من هناك، من خلال فلان أو من خلال آخر؛ إنّما لا جواب، على الأرض، لهموم الإنسان، ومشكلاته، وآلامه، ومعاناته، وموته. “كابدت كثيرًا من أطبّاء كثيرين، وأنفقت كلّ ما لها، ولم تستفد شيئًا”. الإنسان يفقد كلّ ما له، ينفقه بلا فائدة، ولا يستطيع أن يخرج من هذه الدّوّامة. “لم تستفد شيئًا، بل صارت إلى حال أسوأ”. هذا معناه أنّ الإنسان، ما لم يسلك في السّبل الإلهيّة، بل بحث عن سبل أخرى، فإنّ حاله تسوء. لا نقول، فقط، إنّه لا ينتفع شيئًا، إنّما حاله تسوء، أيضًا.

%ce%b1%cf%81%cf%87%ce%b5%ce%af%ce%bf-%ce%bb%ce%ae%cf%88%ce%b7%cf%82
هذه، سمعت يسوع، أي الكلمة، حين كانت في الجمع. لم تأتِ، فقط، لتُشفى. النّاس، عادة، عندما يطلبون الشّفاء، يتوقّفون عن سماع ما لا علاقة له بشفائهم!. أمّا هذه المرأة، فقد سمعت، أوّلاً. سمعت، وفهمت، وأدركت. ولأنّها سمعت جيّدًا، الكلمة الّتي سمعتها جعلت الرّوح يتحرّك فيها. إذ ذاك، تصرّفت، على غير ما كانت تتوقّع. أغلب الظّنّ أنّ هذه المرأة، عندما بادرت إلى الاقتراب من يسوع من خلفه، ومسّت ثوبه، كان هذا الفكر، في نفسها، ابن ساعته. لم تكن قد أتت إلى يسوع عن سابق تصوّر وتصميم، لتفعل ما فعلته. كأنّ روح الله، في الكلمة الّتي سمعتها من يسوع، دفعها إلى أن تأتي بين الجمع من خلفه، لتمسّ ثوبه. “قالت في نفسها: إنّي إن مسست ولو ثيابه برئت”. في الحقيقة، الإنسان عندما يكون في وضع الألم، يكون مهيَّأً لسماع الكلمة الّتي تشفي بطريقة حيّة. مثلاً، إذا كان الإنسان في وضع الصّحّة والعافية، وكلّمه النّاس عن الأطبّاء، فإنّه يتّخذ منهم موقفًا أقرب إلى الموقف النّظريّ؛ في حين أنّه، إذا كان مريضًا، “مضروبًا” في جسده، فإنّه يتّخذ موقفًا مختلفًا تمامًا. الطّبيب، بالنّسبة إليه، يصبح أداة أحشائيّة للشّفاء، أداة للحياة، شبه إله، بمعنى. الإنسان يصبح حسّاسًا لِما يسمع، بشكل مميّز. “مسّت ثوبه”. الثّوب، في الحقيقة، ليس، فقط، ما يتغطّى به الإنسان، ما يستدفئ به. الثّوب، في الحقيقة، لأنّه يلتصق بالبدن، يصبح امتدادًا له. الحرارة الّتي في البدن تمتدّ إلى الثّوب. لذا، مَن مسّ ثوب أحد، فقد مسّه هو.
الإنجيل، هنا، هو من مرقس. في إنجيل متّى، مثلاً، الكلام هو: “إن مسستُ هدب ثوبه، برئت”. لماذا، يا ترى، يأتي إنسان وينحني إلى الأرض، ليمسّ هدب ثوب إنسان آخر؟!. هذا لا شكّ لافت للنّظر. إذا كان يريد أن يعمل ما يعمله في الخفاء، فلماذا يظهر، أو يجعل نفسه في وضع مَن يستبين لعيون النّاس في ما يفعل؟ الحقيقة أنّ هدب الثّوب، أو طرف الثّوب كان، عادة، بالنّسبة إلى اليهود، علامةً لحفظ الشّريعة. الّذين كانوا غيارى على حفظ الوصايا كانوا يجعلون في أثوابهم شراريب، من بينها كريات صغيرة، لونها أزرق. في سفر التّثنية، الكلام هو على شراريب إسمنجونيّة. إذًا، هذا يشير إلى التّقى، إلى حفظ الوصيّة. ليس مستبعَدًا أن يكون الرّبّ يسوع قد جعل على بدنه ثوبًا فيه شراريب؛ لأنّ الرّبّ يسوع، في كلّ حال، كان يسعى، دائمًا، للسّلوك وفقًا للشّريعة. هو لم يأتِ لينقض الشّريعة، بل ليكمّلها. الفرّيسيّون كانوا هم الّذين يعطون الأمورَ تفاسيرَ لا تتّفق مع روح العهد القديم. إذًا، هذه المرأة لاحظت، في نفسها، أنّ هذا معلّم على تقًى كبير؛ ما يعني أنّه في مستوى هذه الشّراريب الّتي يلبس. هو لا يلبسها من باب الظّهور بمظهر التّقى، بل هو تقيّ بالفعل. كأنّها، إذا مسّت هدب ثوبه، مسّت النّعمة الّتي تمثّلها هذه الشّراريب. “قالت: إنّي، إن مسست ولو ثيابه، برئت”. الرّبّ يسوع، حين صعد إلى الجبل، وتجلّى قدّام تلاميذه، صارت ثيابه تلمع كالشّمس. إذًا، الرّبّ يسوع، هنا، حاضر في ثيابه. من جهة أخرى، نعلم أنّ جسد الإنسان هو بمثابة ثوب له. إذا تكلّمنا على روح الإنسان، فالجسد يكون ثوبه. إذًا، “إن مسست ولو ثيابه، برئت”. قالت هذا الأمر، في نفسها، إنّما بيقين. لهذا السّبب، قال لها الرّبّ يسوع: “إيمانك أبرأك”. القول الإلهيّ هو: “مَن قال لهذا الجبل، وهو لا يشكّ في نفسه: انقلع وانطرح في البحر؛ فإنّه يكون له، لأنّه ليس شيء غير مستطاع للمؤمن”. إذًا، لم تأتِ المرأة في وضع التّردّد، بل في وضع اليقين. تُرى، أكان يمكن أن تكون على هذا اليقين، لو لم تكن قد عانت اثنتي عشرة سنة؟!. أغلب الظّنّ، لا!. الإنسان يحتاج، في الحقيقة، إلى أن يعاني، إلى أن يتألّم!. أمر مستغرَب، طبعًا، لكنّه حقيقيّ جدًّا: أنّ اليقين يأتي من معاناة!. كلّما كبرت معاناة الإنسان، زاد تهيّؤه لأن يكون على يقين، في تعاطيه الرّبّ الإله!.
“وللوقت، جفّ مسيل دمها”. لفظة “للوقت” من مزايا مرقس الإنجيليّ، الّذي يعطي، دائمًا، الانطباع أنّ مَن يتعاطى الرّبّ يسوع، مَن يأتي إلى الرّبّ يسوع، مَن يأتي إليه الرّبّ يسوع؛ فإنّ التّغيير عنده يتمّ بالكامل، للوقت. الله لا يشفي الإنسان كما تشفيه الأدوية، مثلاً، أي بصورة تدريجيّة. لكن، طبعًا، هذا لا يعني أنّ الرّبّ الإله لا يدبّر، أحيانًا، أن يكون شفاء الإنسان تدريجيًّا. إنّما هذا لكي يجعل الإنسان يترسّخ في الإيمان. إذًا، هذا يكون لسبب روحيّ، ولا يكون لعجز الله عن أن يشفي بصورة سريعة، للوقت. “وفي الحال، شعر يسوع، في نفسه، بالقوّة الّتي خرجت منه”. لأوّل وهلة، يبدو كأنّ الرّبّ يسوع لا يملك على القوّة الّتي فيه. هذا، في الحقيقة، شيء جميل جدًّا، لا يشير، أبدًا، إلى كون هذه القوّة الّتي فيه آليّة. لكنّ محبّته كاملة وفيّاضة، إلى درجة أنّ الإنسان بإمكانه أن يختلس الله اختلاسًا. هو ليس بحاجة، في الحقيقة، إلى أن يدخل في مساومة مع الله؛ لأنّ الله روح، في الدّرجة الأولى، والله روحه ينفذ إلى عمق كيان الإنسان؛ وبحسب الرّوح الّذي في الإنسان، يتحرّك روح الله تلقاءً!. هذه المرأة كانت مؤمنة. لذلك، للحال، تحرّك روح الرّبّ في يسوع. خرج روح الله، أو خرجت قوّة من الرّبّ يسوع، وشفت المرأة!.
التفت يسوع، كأنّ ما حدث له كان بمثابة ردّ فعل. في الحقيقة، الأمران صحيحان: الرّبّ يفعل، والرّبّ يتصرّف كأنّ فعله ردّ فعل!. “فالتفت إلى الجمع، وقال: مَن مسّ ثيابي؟”. كيف يمكن الرّبّ يسوع أن يكون فاعلاً، وأن يتصرّف كما لو كان فعله ردَّ فعل؟!. “مَن مسّ ثيابي؟”، كأنّه لا يعرف!. هو يعرف، في الحقيقة، لكنّه، هنا، لا يمثّل!. نحن لا نفهم كيف اتّحد لاهوته بناسوته. نحن نعرف أنّ هذا حاصل. وعندما نقرأ قولاً من هذا النّوع، فهذا يؤكّد أنّ الرّبّ يسوع ناسوته كان مميَّزًا عن لاهوته، لا منفصلاً عنه، على الإطلاق. ناسوته كان ناسوتًا فاعلاً بكلّ معنى الكلمة. يسوع كان إلهًا وإنسانًا معًا. لم يسلك، فقط، كإله، بل كإنسان، أيضًا. وأعود فأكرّر: هذا ليس من باب التّمثيل!. كيف يحدث؟!. نحن لا نعرف. لكنّ هذا يحدث، كما هو الحال هنا. قال: “مَن مسّ ثيابي؟”. قال ذلك، بالضّبط، كإنسان. وإذ قال ما قاله، كان يسأل كمَن لا يعرف. كيف يعرف الإنسان ولا يعرف، في آن معًا؟!. نحن لا نعرف!. لكنّ هذا حاصل في يسوع المسيح. “من قِبل الرّبّ كان هذا، وهو عجيب في أعيننا”. نحن نقف مدهوشين، في كلّ حين، بإزاء هذه الوحدة الحاصلة بين لاهوت يسوع وناسوته.
“فقال له تلاميذه: أنت ترى الجمع يزحمك، وتقول: مَن مسّني؟”. طبعًا، الرّبّ يسوع كان يتكلّم في مستوى، وتلاميذه كانوا يتكلّمون في مستوى آخر. الرّبّ يسوع شعر بأنّ ثمّة مَن مسّ لاهوته، في جسده، بمعنى!. وهم كانوا يظنّون أنّ الموضوع موضوع بشريّ بحت!. “الجمع يزحمك، وتقول: مَن مسّني؟ فلم يجبهم”. أحيانًا كثيرة، الرّبّ يسوع يلقي كلمته، فلا يفهمها التّلاميذ. لكن، يأتي وقت، حين يعطي روح الرّبّ التّلاميذ فهمًا لِما سبق للرّبّ يسوع أن فعله أو قاله هنا وثمّة. “فأدار يسوع نظره ليرى الّتي فعلت ذلك”. هو رآها في قلبه، لكنّه أراد، أيضًا، أن يراها بعينيه!. الرّبّ يسوع لا يكتفي بأن يرى الإنسانَ في قلبه، في روحه. يريد، أيضًا، أن يراه بعينيه!. في مكان آخر من مرقس، نرى أمرًا جميلاً جدًّا: ذاك الإنسان، الّذي كان أخرس وأصمّ، أخذه الرّبّ يسوع، وجعل إصبعيه في أذنيه!. لم يكن بحاجة إلى ذلك. لكنّ هذا كلّه تأكيد على أنّ الرّبّ يسوع إنسان، بكلّ معنى الكلمة. هو لا يتعاطى الإنسانَ بالرّوح، فقط. هو يتعاطاه، أيضًا، بالجسد!. هنا، “أدار نظره ليرى الّتي فعلت ذلك؛ فخافت المرأة وارتعدت لِعِلمها بما حدث لها”. طبعًا، بحسب الشّريعة، عندما تكون المرأة في دمها، فلا يجوز لأحد أن يمسّها، ولا أن يمسّ شيئًا من ثيابها، وإلاّ تنجّس، وكان عليه أن يقدّم تقدمةً في الهيكل، ليتحرّر من نجاسته. هنا، بإمكان الواحد منّا أن يقول إنّ المرأة فعلت ما فعلت، لأنّها لم ترد أن تحرج المعلّم؛ لأنّ فعلها قد يسبّب له إرباكًا. لكن، في الحقيقة، ما حرّكها كان شيئًا آخر!. كان روح الله هو الّذي تحرّك فيها، وحرّكها؛ لتتصرّف بالطّريقة الّتي تصرّفت بها. “فخافت وارتعدت لعلمها بما حدث لها”. لم تقل كلمةً، إلى أن جاءت وخرّت له، واعترفت: “قالت له الحقّ كلّه” على مسمع من الجميع. كأنّها شعرت بأنّ روحها مكشوفة للمعلّم!. طبعًا، كان يمكن بعض الحاضرين أن يقولوا إنّ هذا مخالف للشّريعة. لكنّ هذه المرأة برئت!. شفاؤها أخرس مَن كان يمكن أن يعترض. “فقال لها يسوع: يا ابنة، إيمانك أبرأك”.
الموضوع ليس، فقط، أن يتوقّف سيل دمها. الموضوع هو أنّ روحها قد شُفيت، كيانها قد شُفي. “إيمانك أبرأك”!. في كلّ حال، كلّ معاناة الإنسان في الجسد والنّفس مصدرها معاناة الإنسان في الكيان. الإيمان يُبرئ الكيان. الرّبّ يسوع لم يأتِ ليكون طبيبًا للأجساد فقط. جاء لأنّه هو طبيب النّفوس والأجساد. أراد أن يشفي الإنسان من الأعماق!. “فقال لها: إيمانك أبرأك، اذهبي بسلام”. أوّل الأمر، أعطاها أن يتوقّف نزف دمها. الآن، أعطاها سلامه: “سلامي أعطيكم، لا كما يعطي العالم”. “كوني معافاة من دائك”. نفسها شُفيت. الرّبّ يسوع بثّها الخلاص، بثّها نفسه!. أعطاها نوره لكي تقيم فيه. تمجّد الله.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 6 كانون الأول

2015

 

 

 

 

 

الإيمان والدّم الجديد!.