...

التأله

 

 

 

“صار الإله إنسانا ليصير الإنسان إلها”، عبارة طالما كررها المسيحيون عن آبائهم الذين سبقوهم في الإيمان وخَبِروا الحياةَ المسيحية. أن يصير الإنسان إلها لهو الهدف الأسمى لكل من يسعى إلى بلوغ الحياة الحقيقية في يسوع المسيح. وفي هذا يقول القديس باسيليوس الكبير: “كمال المشتهى أن يصير الإنسان إلها”. فكيف يصير الإنسان إلها؟ وكيف تتحقق الألوهة في الإنسان؟

خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، أي حرّا ذا إرادة حرة. وبهذه الإرادة يستطيع الإنسان أن يختار موقعه في أن يكون مع الله أو خارجا عنه. لذلك، اذا شاء أن يصير إلها فهو قادر بنعمة الله أن يبلغ الكمال. فالإنسان يصل إلى الألوهة عندما يحقق الإنسانية الموضوعة فيه، أي عندما يصير إنسانا حقا. “فكونوا انتم كاملين، كما أن أباكم السماوي كامل” (متى 5 :48)، هذه الآية الإنجيلية لا تشكل تحديا فوقيا لا قدرة للإنسان على تحقيقه، بل هي في متناول جميع الناس. لذلك، باستطاعة الإنسان أن يكون كالإله كاملا. أن يكون الإنسان إنسانا هذا هو التأله.

لا بد من التأكيد على البعد الخلاصي للتأله، وهذا تم في تجسد ابن الله وفي التدبير الذي أتمه على الصليب، إذ لولا هذا العمل لما استردَّ الإنسان القوة لكي يبلغ إلى المثال الذي دعاه إليه الله منذ بدء الخليقة. بالنسبة إلى القديس أثناسيوس الكبير (وآباء القرن الرابع الذين حاربوا الهرطقة الآريوسية) يشكل تأله الإنسان حجة رئيسية لألوهة المسيح والروح القدس فيما بعد. يقول القديس أثناسيوس: “لو لم يكن الابن إلها بالحقيقة لما كان الإنسان قابلا التأله. لو لم يكن الذي تجسد هو كلمة الله الحقيقي لما اقترب الإنسان من الله. لو أن الذي صار إنسانا لم يكن خارجا من الآب بالطبيعة ولو لم يكن كلمتَهُ لما صار الإنسان إلها. اتحدت الطبيعة الإنسانية بالطبيعة الإلهية لكي تنال الثانية الخلاص والتأله” (مقالة ضد الآريوسيين). تجدر الإشارة إلى أن الآباء جميعا يشددون على أن الإنسان لا يستطيع بقدرته الذاتية تحقيق هذا التأله، ذلك أن التأله “نعمة” من الله.

يعبّر القديس مَكسيمُس المعترف أفضل تعبير عن نتيجة تأله الإنسان بقوله: “كل ما يملكه الله، ما عدا جوهره، يَصِيره مَن يتأله بالنعمة”. ويؤكد الآباء بصورة دائمة على أن نعمة الله لا تعطى جزئيا، بل كاملة. لا ينال الإنسان المتأله جزءا من الله أو بعضا منه، بل الله كاملا. ولا يعني التأله ذوبان الطبيعة الإنسانية واختفاءها، بل يعني تحقيق هذه الإنسانية وبلوغها إلى هدفها الذي من أجله خلقها الله. أن يصير الإنسان كل ما هو الله ما خلا جوهره، يوضحه القديس يوحنا الدمشقي بقوله: “بالنعمة يصير الإنسان ما هو المسيح بالطبيعة”. إذاً، يصير الإنسان بالنعمة ابنا لله في ابنه الوحيد بالطبيعة، يصير الإنسان بالنعمة وليس بالجوهر إلها وابنا لله.

يقول مِثوديوس الأُولمبي: “لم يأتِ المسيح ليغيّر الطبيعة الإنسانية أو ليحوّلها، ولكنه أتى ليُعيد هذه الطبيعة إلى حالتها ما قبل السقوط، أي إلى عدم الموت”. التأله هو ترميم للطبيعة الإنسانية التي سقطت بمشيئتها الحرة. لقد خلق اللهُ الإنسان صالحا، والإنسان بقرار حُرٍّ منه اختار أن يبتعد عن الله. لذلك يربط القديس مكسيمُس المعترف الخلاصَ بإرادة الإنسان المخلَّصة بيسوع المسيح: “عندما استمع آدم إلى صوت المجرِّب وأكل من الشجرة بمشيئته، كانت المشيئة الإنسانية أول ما سقط في الإنسان. فلو لم يتخذ الكلمةُ المتجسدُ المشيئةَ الإنسانية كما يزعم أصحاب المشيئة الواحدة (الإلهية)، لبقيتُ خاضعا للخطيئة، ذلك لأن ما لم يتخذه ابن الله لا يخلص”. إذا كان السقوط نتيجةً لانحراف المشيئة الإنسانية باختيارها الشرَّ، فإن الخلاص قد أُتيح بسبب اتخاذ ابن الله المشيئة الإنسانية كاملة ليفديها وينقذها من الضلال.

الإنسانية المتألهة ليست سوى الإنسانية الحقيقية التي وصلت إلى مبتغاها الأصلي الذي من أجله خُلقت. هذه الإنسانية الجديدة هي إنسانية يسوع الكلمة المتجسد التي تحتوي، على حد قول مكسيمُس العظيم، الإنسان الجديد. لقد حقق المسيح كإنسان تام بإرادة إنسانية ما رسمه الله للإنسان الأول، وصار في ميزات حياته كإنسان نموذجا للإنسان المتأله، ففتح لنا الطريق لكي نبلغ به الحياة الأبدية.

يقول القديس نقولا كاباسيلاس إن غاية الإنسان هي الحياة في المسيح، أي الاتحاد به. وهذا غير متاح إلا بالأسرار التي تقيمها الكنيسة: في المعمودية يصير الإنسان جديدا، في سر الميرون المقدس ينال مواهب الروح القدس، وفي سر الشكر (القداس) يتحد اتحادا عضويا بربه يسوع المسيح…

الأسرار توفّر لنا منذ اليوم الاشتراك في الحياة الإلهية. رحلتنا إلى التأله تبدأ في هذه الحياة الدنيا، الإنسان التأله ليس مشروعا مستقبليا بل هو مشروع افتُتح، ولم يفت الأوان بعد

عن نشرة رعيتي 1998
www.orthodoxonline.org

 

 

 

 

 

 

التأله