...

الكل واحد في المسيح

 

 

 

 

حيث ليس يوناني ويهودي ختان وغرلة بربري وسكيثي عبد حر بل المسيح الكل وفي الكل. كولوسي 3: 11

كلمات بولس الرسول هذه هي قاعدة مسيحية موجزة، وتلخص فعلاً القيمة الحقيقية للإنسان، أي تُظهر الإنسان المثالي والحقيقي، كما تصوّر أيضاً المجتمع المنشود مسيحياً. يقرأ هنا بولس وبسرعة كل معطيات وصراعات عصره حول معاني وطرق وأسباب وجود الإنسان. ونراه يرمي بها (رغم قيمتها) ليستبدلها كلها بالمعيار المسيحي الحقيقي للقيمة الإنسانية. لقد كان بولس رسولاً ورجل معاناة حقيقية، لأنه أحب الجميع ولم يكن عبداً لأي رابط، لأن الإنسان لديه أعلى وأثمن من كل الروابط. وقاده حبّه المسكوني هذا إلى مواجهة كل العُرى والمثل والميزات العالمية من أجل أن يجعلها كلها إناء لبشارته بيسوع، لذلك كل ما كان منها معيقاً للبشارة باطل، والعكس بالعكس صحيح. إن كل رابط من الروابط السابقة كان يمثّل في زمن بولس الرسول عالماً كاملاً، نراه اليوم يتكرر في مجتمعاتنا وحياتنا الدينية، ولو تبدلت أسماؤه الخارجية.

“لا يوناني ولا يهودي”، فهذان هما العالمان الأساسيان، عالم الملحدين (اليونان) وعالم المتديّنين (اليهود). كان بولس يكتب كيهودي. ولقد كان اليهودي يعتبر نفسه ابن الشعب المختار والمؤمن، بينما كان اليونان له الأمم التي ليس لها إله بل تعبد الأوثان. وكان اليهودي ينشد في حياته تعلّم الدين وتطبيق وصاياه بحرفيتها. فكان المثَل الأعلى له هو الإنسان التقيّ. ولطالما وصلت المبالغات إلى جعل هذا “التقيّ” لا يطلب ولا يعرف ولا يقبل شيئاً خارج الدين في كل مفاصل الحياة. لذلك كان أجمل ما لديه هو “العجيبة” التي كانت تعبّر عن صحّته وعن رضى الله وبركته. لذلك في موضع آخر صرخ بولس “اليهود يطلبون عجيبة واليونان حكمة”.

بينما اليوناني كان يمثّل العالمَ المؤسس على قواعد غير دينية، ويبني تطوره ومثله على الأسس المنطقية والعلمية. أولا يتكرر هذا العالم اليوم في أغلب مجتمعاتنا، التي بعضها يُلحد وينكر وجود الله، وبعضها لا يُلحد مباشرة ولكن يعتبر “الله” مسألة إيمانية تخص ربما الهوايات الشخصية، أو تعتبر الأديان مجرّد طريقة نفسية خاصة لكل فرد في المجتمع، لكنه (الله) لا يمكنه أبداً أن يكون أساساً للتطور ومسيرة الحياة، وإن كان يمكننا أن نقبله كلون من ألوان الرياضات الروحية أو الهوايات الشخصية. “العلم” هو إله التطور وهو يخلصنا من حاجاتنا ويوصلنا إلى غاياتنا. وهنا الله لا يمكنه أن يأخذ مساحة أكثر من مساحة زمن وقت الفراغ والرياضات النفسية؛ في أحسن الأحوال.

“لا يوناني ولا يهودي” من النظرة المسيحية، لأن قيمة الإنسان ليست في “علمه” ولا أيضاً قيمته في “دينه”! لأن العلم ليس صفةَ الإنسان إنما هو ملَكَة من ملَكاته. فإذا ما كان الإنسان شريراً ويملك هذه الملكة جعلها شريرة، وإذا ما كان الإنسان صالحاً ولديه علوم كثيرة، جعلها علوماً صالحة. وكذلك الدين، فهو “اعتقاد”، إذا لم يكن حامله صالحاً لا ينفعه دينه شيئاً لا بل يدينه بدل أن يخلّصه. إذن القيمة البشرية لا تأتي حصراً من الدين أو من العلم”

“لا ختان ولا غرلة”، وهنا يدخل بولس في شطري العالم الديني ذاته. إذ يمثّل أهل الختان “المحافظين” دينياً، ويمثّل أهلُ الغرلة المؤمنين “المتحرّرين”. إن الذين دخلوا المسيحية أيام بولس كانوا قسمين. الفئة الأولى كانت من اليهود الذين أرادوا “المحافظة” على شرائع الآباء (الختان)، وأن تستمر المسيحية مع تراثها اليهودي السابق كله. وكانت الفئة الثانية من الذين قبلوا المسيحية دون أن يجدوا معنى بعد لبعض الوصايا القديمة، وظهر هؤلاء كأنهم يجدّدون ويتحررون من كثير من الوصايا والبديهيات الدينية القديمة، التي يتكلمون عنها اليوم كقيود لا تفيد الإيمان في جوهره. وكانوا يعتبرون أنه يحقّ لهم الإيمان بجوهر الدين مجدّدين أشكاله وربطه الخارجية. واليوم المسيحيون أنفسهم يتوزعون بين محافظين، ويتطرّف البعض منهم ‘لى حدّ الجمود عند التقاليد القديمة، ناعتين إياها خطأً بالتقليد الشريف. بينما يتحرر الآخرون من هذا “التقليد الشريف” الذي بنظرهم ليس إلا تقاليد تجاوزها الزمن وهي للماضي وغير مقبولة اليوم. وقد يتطرف هؤلاء حين يتحررون من التقاليد لدرجة أن يرفضوا مرات عديدة معها شيئاً من التقليد الحقيقي ومن جوهر الدين تحت ورشة التحررّ من القديم نازعين من الدين أيضاً أصالته وأسسه التي كانت من القديم (زمنياً).

إذن لا محافظة ولا تحرّر، لا تقاليد ولا إبداع، لا جمود ولا تجديد، هذه كلها معايير ربما في الأديان، لكنها ليست المعيار المسيحي في تقييم الإنسان والحركات الاجتماعية. فلا يخلص المؤمن إخلاصُه لتقاليده، ولا يخلّصه أيضاً تجديده!

“ولا بربري ولا اسكيثّي”! نعم لا يهمّ أن يكون الإنسان من أصل شريف أو أصل بربري، إن كان متمدّناً أو بدوياً! فلا المدينة تكفي ولا حياة البداوة تمنع، لا تلك تضمن ولا هذه تعيق أن يكون للإنسان كرامته الحقيقية من المنظار المسيحي! لقد كان البرابرة هم الشعوب غير المتمدّنة. أما الأسكيثيون فكانوا شعوباً جبارة محاربة.

وما أشبه عالم الدول العظمى التي تعتمد في عظمتها ليس على المدنيّة الروحية وإنما على القوة الاقتصادية والعسكرية، التي تمكّنها من أن تمحو أي شعب آخر وأن تخضعه لها. لكنّ القيمة الإنسانية مسيحياً تُبنى على اللطف والرحمة وليس على الوحشية!

وفي موضع أخر يُضيف بولس الرسول على عبارته اليوم، أنه “لا ذكر ولا أنثى” (غلاطية 3، 28)، وهكذا يكون إيمان بولس بيسوع قد حرّره فعلاً من مخلّفات القرون والعهود الطويلة التي كانت وربما ما زالت لا تعطي للمرأة حقها كالرجل! لا شيء يحررنا إلا الإيمان بيسوع، بينما الأديان والفلسفات جميعها لم تتزّن في نظرتها للمرأة بعد.

فإذا ما كانت الصراعات عديدة بين الدين والإلحاد من الخارج وبين المحافظين والمتحررين من داخل الدين، وبين الرجل والمرأة في الحياة، وبين المتمدّنين والبرابرة، وبين الضعفاء والأقوياء، وغيرها من صراعات، كلها تسعى لتدّعي أنها تعطي للإنسان قيمته الحقيقية عن طريق التديّن أو التعلّم أو التمدّن أو التسلّط أو الذكوريّة، أو … فإنها كلها بنظر بولس الرسول وحدها كاذبة.

فأين إذن قيمة الإنسان كان متديناً أو ملحداً، كان رجلاً أم امرأة،… إن قيمته في الكلمة الأخيرة لبولس “بل المسيح هو الكل”! فبمقدار ما يحمل كل إنسان صورةَ المسيح فيه تكون قيمته أكبر، وبمقدار ما تنعدم صورة المسيح فيه بمقدار ما يفقد كرامته الإنسانية. إن الإنسان المثالي ليس المتدين ولا المتعلمّ ولا… فقط، بل هو من كلهّ كالمسيح! جميعنا، والمسيحيون أيضاً، كاليهود في التديّن واليوناني في المنطق والاسكيثيين بالقوة… وبالوقت ذاته مسيحيين! نؤمن بيسوع ولكننا نحمل ألوان وثنيات هذا الدهر أيضاً ولسنا كلنا مسيحاً! فنؤمن بيسوع وبالوقت ذاته نؤّله معه روابط عديدة كالعلم والنسب والحسب والقوة والمال وسواها… تلك كلها معايير لا تعطي للإنسان قيمته الحقيقية، التي تأتي فعلاً من مقدار تصوره على صورة المسيح.

فإذا لم يجعلنا العلم كالمسيح هو باطل، وإذا لم يصورنا الدين كيسوع هو أيضاً باطل، وكل ما في الدنيا من روابط تَبطل حين تُبطل صورة يسوع وتفيد حين تجعل يسوع هو كل ما فينا. يسوع هو “الإنسان” الحق، ونحن نتأرجح، بسبب من الروابط التي لدينا، بين الحق وبين الباطل!

وهذه صورة المجتمع الحقيقي، حين يكون “المسيح في الجميع”، أي حين يكون المسيح هو الكل ليس في بعض الناس ولكن في الجميع، حين يصير المجتمع كله مسحاءَ للربّ!

هذه هي الإسختولوجية المسيحية، وهذه صورة وكرامة الإنسان الحقيقية مسيحياً، حين يكون كل إنسان مسيحاً ولا شيء غريب عن المسيحية فيه، وحين يصير يتصوّر المسيح في الجميع وليس في البعض.

لا العلوم اليونانية ولا التدين اليهودي، لا المحافظة في الختان ولا التحرر في القلف، لا نسب ولا بربر، لا ضعف ولا قوة اسكيثية، ولا ذكر ولا أنثى، بل كرامة الإنسان الحقيقية هو أن يكون المسيح هو كلّ ما فيه وأن يكون المسيح في الكل (في الجميع). آمين

المطران بولس يازجي
عن رسالة رعية حلب
نقلاً عن الموقع القديم للمطرانية
www.orthodoxonline.org

 

 

 

 

 

الكل واحد في المسيح