...

مهمة التقليد في الكنيسة القديمة

 

 

 

“لو لم يحرّكني سلطان الكنيسة الجامعة لما أمنت بالإنجيل”
القديس أوغسطين، ضد الرسائل المانيّة، 1، 1)
القديس فكنديوس والتقليد:
كان قول القديس فكنديوس الليرنسي الشهير: “يجب أن نحفظ ما آمن الجميع به دائماً وفي كل مكان” (Commonitorium،2) ميزة رئيسة في موقف الكنيسة القديمة من الأمور الإِيمانيَّة. وهذا القول كان مقياساً مبدأ في الوقت نفسه. وكان التشديد الحاسم يقع هنا على استمرار التعليم المسيحي. والحق، أن القديس فكنديوس احتكم إلى “المسكونية” المزدوجة في الإيمان المسيحي -في المكان والزمان. فهذا الرؤية الكبيرة هي التي ألهمت القديس إيريناوس في أيامه: لقد انتشرت الكنيسة الواحدة في أرجاء العالم، لكنَّها تتكلَّم بصوت واحد وتحفظ الإيمان نفسه في كلّ مكان، كما سلَّمه الرسل الأطهار وحفظه وتعاقب الشهود، هذا الإيمان “الذي حُفظ في الكنيسة من أيام الرسل بواسطة تعاقب القسوس”. هذان الوجهان للإيمان، بل بعدهما، لن ينفصلا، لأن “المسكونية” (universitas) و”القِدَم” (antiquitas) و”الإجماع في الرأي” (consensios) أمور متكاملة وليس أحد منها مقياساً صالحاً في حدِّ ذاته.
لم يكن “القِدَم” في حدِّ ذاته ضمانة كافية للحقيقة إذا لم يثبِّته “الإجماع في الرأي” عند “القدماء”. و”الإجماع” في حد ذاته لم يكن باتّاً ما لم ترجع جذوره بشكل مستمر إلى الرسل. يقول القديس فكنديوس: نحن نعترف بالإيمان الحقيقي عن طريق الالتجاء إلى الكتاب المقدَّس والتقليد، “عن طريقين… أولاً عن طريق سلطان الكتاب المقدس، ومن ثمّ عن طريق تقليد الكنيسة الجامعة”. لكن هذا الأمر لا يشير إلى وجود مصدرين للعقيدة المسيحية، لأن قانون الكتاب كان “تاماً” و”كافياً” في حدِّ ذاته ولأن “كل الأشياء (في الكتاب) كاملة وأكثر من كافية”. فماذا يجب أن يُكمَّل “بسلطان” آخر؟ ولماذا كان الرجوع إلى سلطان “الفهم الكنسي” ضرورياً؟ لقد كان السبب واضحاً وهو أن كلّ مسيحي شرع في تفسير الكتاب بشكل مختلف، “لدرجة أن المرء يكاد يصل إلى الانطباع بأن هناك معاني مختلفة بمقدار عدد الناس”. ولذلك قاوم القديس فكنديوس تعدّد الأفكار “الخاصة” بفكر الكنيسة “الواحد”، فكر الكنيسة الجامعة، فقال إنه يجب أن “نوجِّه تفسير كتب الأنبياء والكتابات الرسولية وفق قاعدة التفسير الكنسي الجامع”. فلم يكن للتقليد عنده وجود مستقل، ولم يكن مصدراً مكمِّلاً للإيمان. “فالفهم الكنسي” لا يضيف شيئاً إلى الكتاب المقدَّس، لكنه كان الوسيلة الواحدة للتحقق من المعنى الصحيح للكتاب ولكشفه. كان التقليد التفسير الموثوق به، وبهذا المعنى يمتد امتداد الكتاب. وكان التقليد “الكتاب المفهوم بشكل صحيح”. وكان الكتاب، عند القديس فكنديوس، القانون الأوحد والرئيسي والنهائي للحقيقة المسيحية (Commonitoriun الإصحاح 2 و28).
المسألة التفسيرية في الكنيسة القديمة:
في هذا المجال وافق القديس فكنديوس كلياً التقليد القائم في الكنيسة. فعبارة القديس إيلاريون واتيه الرائعة التي تقول : “إن الكتاب ليس في قراءته، بل في فهمه” (إلى كونستانس، 2، 9، مجموعة الآباء اللاتين، مين 10، 570) كرَّرها القديس إيرونيموس “جيروم” (الحوار ضد لوكيفاروس، 28، مجموعة الآباء اللاتين مين 23، 190-191). ولقد ظلّت مشكلة التفسير الصحيح للكتاب المقدس حادّة حتى القرن الرابع أثناء صراع الكنيسة مع الآريوسيين، وما خفَّت حدَّتها عماّ كانت عليه في القرن الثاني أثناء مقاومة العرفانيين والصباليوسيين والمونتانيين. فكلّ أطراف النزاع احتكمت إلى الكتاب، حتى إن الهراطقة والعرافايين والمانويين استشهدوا بفصوله وآياته واحتكموا إلى سلطانه. وكان التفسير في تلك الفترة أهمّ منهج لاهوتي ولعلَّه كان المنهج الأوحد، وكان سلطان الكتاب مطلقاً وسامياً. وكان الأرثوذكسيون يتّجهون إلى طرح السؤال التفسيري الحاسم: ما هو مبدأ تفسير الكتاب؟ لكنَّ لفظة “الكتاب المقدس” أشارت في القرن الثاني بصورة أساسية إلى العهد القديم، ولذلك اعترض مركيون (مرقيون) بقوة على سلطان أسفار العهد القديم رفض الاعتراف بها. بناء عليه أصبح برهان وحدة العهدين ضرورية. ما هو أساس الفهم المسيحي والخريستولوجي “للنبوءة”، أي للعهد القديم وما هو مبرِّره؟ ففي تلك الحقبة أُثير أولاً سلطان التقليد. فالكتاب ينتمي إلى الكنيسة ولذلك يُفهم بشكل وافٍ ويُفسَّر بشكل صحيح فيها وضمن جماعة الإيمان القويم فقط. أمَّا الهراطقة، أي الذين خارج الكنيسة، فلم يملكوا مفتاح فكر الكتاب، لأنه لم يكن الاستشهاد بكلام الكتاب كافياً إذ يجب على الإنسان أن يَشرح معنى الكتاب الحقيقي والقصد منه بشكل كليّ وأن يُدرك مسبقاً نموذج الإِعلان الكتابي ومخطط عناية الله المخلِّصة. وهذا لن يتحقَّق إلاَّ بالرؤية الإيمانية. فبالإيمان كان “الإقرار بالمسيح” (Christiuszeugniss) في العهد القديم مفهوماً. فبالإيمان أُكِّدت بشكل صحيح وحدة الأناجيل ذات الأشكال الأربعة لكنَّ هذا الإيمان لم يكن تأملاً فردياً كيفياً، بل كان إيمان الكنيسة المتأصل في البشارة الرسولية وفي الكرازة (kerygma) أمَّا الذين خارج الكنيسة فتعوزهم هذه الرسالة الأساسية، التي هي قلب الإنجيل. فالكتاب عندهم حرف ميت ومجموعة من النصوص والسير غير المترابطة. إنهم حاولوا ترتيبها وفق طريقتهم الخاصة التي استقوها من مصادر غريبة. فأتى إيمانها مختلفاً. هذه هي حجة ترتليان في مبحثه “معارضة الهرطقة” (De praescriptione). فهو لم يشأ أن يبحث الكتاب مع الهراطقة، إذ لا حقّ لهم في استعماله لأنه لا يخصّهم. الكتاب ملك الكنيسة. ولذلك أكّد ترتليان بشدة على أولوية “قانون الإيمان” (regula fidie) الذي هو المفتاح الأوحد لفهم معاني الكتاب. وهذا “القانون” كان رسولياً ومتأصّلاً في تعليم الرسل ومستمداً منه. وصف تُرنير (C.H.Turner) بشكل صحيح معنى هذا الاحتكام إلى “قانون الإيمان” وغاية الرجوع إليه في الكنيسة الأولى، فقال: “عندما تحدَّث المسيحيون عن “قانون الإيمان”بكونه قانوناً “رسولياً”… لم يعنوا به أن الرسل اجتمعوا لصياغته… بل عنوا به أن الاعتراف بالإيمان الذي علَّمه الرسل وأودعوه تلاميذهم ليعلِّموه هم من بعدهم”. كان هذا الاعتراف هو هو في كل مكان، رغم أن أسلوب التعبير قد يتغيَّر من مكان إلى مكان وكان دوماً وثيق الصلة بدستور المعمودية وخارج هذا “القانون” لا يمكن إلاَّ أن يفسَّر الكتاب تفسيراً خاطئاً. فالكتاب والتقليد، عند ترتليان، متلازمان دون انفصال: “حيثما يتّضح التعليم المسيحي الحقّ والإيمان المسيحي القويم نجد الكتاب المقدَّس الحقيقي والتفسير القويم والتقليد المسيحي الحقيقي” (19، 3). فتقليد الإيمان الرسولي كان المرشد الضروري لفهم الكتاب والضمانة الأساسية للتفسير الصحيح. لكنَّ الكنيسة لم تكن سلطة خارجية مهمتها أن تحكم على الكتاب، بل أن تحفظ الحقيقة الإلهية المودعة فيه
القديس إيريناوس و”قانون الحقيقة”:
عندما دحض القديس إيريناوس سوء استعمال العرفانيين الغنوصيين للكتاب المقدَّس أورد تشبيهاً رائعاً، فقال: صنع فنَّان موهوب صورة جميلة لأحد الملوك من الجوهر الثمينة، لكنَّ شخصاً آخر فكَّ هذه الحجارة وأعاد ترتيبها بأسلوب آخر ليقدِّم صورة كلب وثعلب. ثم زعم أن هذه الصورة هي الصورة الأصلية التي صنعها الفنَّان الأول، وتعلَّل قائلاً إن الحجارة (أو الفسيفساء psiphides) أصلية. والحق أن التصميم الأصلي قد تهدَّم و “ضاع نموذج الإنسان الموضوع”. هذا بالضبط ما يفعله الهراطقة بالكتاب المقدس. فهم يتجاهلون ويمزِّقون “الترابط والترتيب” الموجودين في الكتاب المقدس، “ويقطعون أوصال الحقيقة”. إن كلماتهم وتعابيرهم وأمثالهم أصيلة، لكنَّ قياسهم (أو تصميمهم) (hypothesis) كيفيّ وخاطئ (ضد الهرطقة 1، 8، 1). ثمّ أورد هذا القديس تشبيهاً آخر. كانت مختارات من شعر هوميروس متداولة في تلك الأيام، لكنها استخدمت جزافاً وبعيداً عن سياقها وأُعيد ترتيبها بشكل كيفيّ. فكانت الأبيات كلُّها هوميروسية، لكنَّ القصة الجديدة التي اخترعها الناس بسبب إعادة ترتيب الأبيات لم تعد هوميروسية أبداً. وكذلك ينخدع الإنسان بسهولة بهذا الأسلوب الذي يبدوا هوميروسياً (1، 9، 4). ويجدر بنا أن نشير إلى أن ترتليان ذكر أيضاً هذه المختارات الشعرية (centones) من أبيات هوميروسية وفرجيلية (معارضة الهراطقة 39). ويبدو أن هذا الأسلوب كان مألوفاً في الأدب الدفاعي آنذاك. أمَّا النقطة التي أراد القديس إيريناوس أن يوضحها فهي أن للكتاب نموذجه وبنيته الداخلية وتآلفه، لكنَّ الهراطقة ينكرون هذا النموذج وبالأحرى يستبدلونه بنموذجهم الخاص. وبكلام آخر، إنهم يعيدون ترتيب الشواهد الكتابية على أسس غريبة عن الكتاب نفسه. فأكد القديس إيريناوس أن الذين يحفظون بقوة “قانون الحقّ” الذي تسلَّموه في المعمودية لن يجدوا صعوبة في “إعادة كلّ عبارة إلى مكانها الصحيح”، ولن يعجزوا عن مشاهدة الصورة الحقيقية. إن العبارة الواقعية التي استعملها القديس إيريناوس فريدة وخاصة به وهي “الملائم لجسم الحقيقة” (prosarmosas tis alithias somation) وترجمتها اللاتينية القديمة غير المتقنة: (corpusculum veritatis) أمَّا معناها فواضح جداً، لأن لفظة (Somation) “جسم” ليس تصغيراً، بل تشير إلى “الجسم” (corpus) إلى السياق الصحيح والبنية الأصلية و”الصورة الصحيحة” والترتيب الأولى للحجارة (أو الفسيفساء) والأبيات. ولذلك يجب أن يرشدنا “قانون” الإيمان، في رأيه، إلى قراءة الكتاب المقدَّس، لأن المؤمنين يلتزمونه باعترافهم به في المعمودية، ولأن هوية الرسالة الأساسية و”حقيقة” الكتاب تعيّنان به بصورة صحيحة. أم العبارة الفضَّلة لدى القديس إيريناوس فكانت “قانون الحقّ” (Kanon tis alitheias، Regula veritatis). والواقع أن هذا “القانون” لم يكن سوى شهادة الرسل وكرازتهم وبشارتهم، التي “أودعت” في الكنيسة وعُهد بها إليها من الرسل وحُفظت بصدق وسُلِّمت بإجماع عام في كلّ الأمكنة عبر تعاقب الرعاة “الذين تسلَّموا موهبة الحقيقة الثابتة إلى جانب التعاقب الرسولي”. ومهما كان المدلول الدقيق والمباشر لهذه العبارة التي تزخر بالمعاني فلن يعترينا الشك في أن هذه الحفظ الدائم للإيمان المودَع ونقله تحققا، عند القديس إيريناوس، بحضور الروح القدس في الكنيسة. لقد كان مفهوم الكنيسة عنده قائماً على “المواهب” و”المؤسسة” بآن واحد. وكان “التقليد”، في مفهومه، “وديعة حيَّة” (Juvenescens depositum) أعطيت للكنيسة لتكون نسمة جديدة للحياة، مثل نسمة الحياة التي أُسبغت على الإنسان الأول (aspiration plasmationis quemadmodum 1، 24، 3). والأساقفة و”القسوس” كانوا حرَّاساً مفوَّضين في الكنيسة وخدَّاماً للحقيقة التي أُدعت فيها. “حيثما تودع posita sunt” مواهب (charismata) الرب يحسن تعلّم الحقيقة ممن عندهم التعاقب الكنسي الآتي من الرسل (successio apud quos est ea quae est ab apostolis ecclesiae) وممن عندهم التصرف اللائق الذي لا عيب فيه وممن ينطقون بكلام طاهر لا غش فيه. فهؤلاء يحفظون أيضاً إيماننا هذا بالإله الواحد الذي خلق كلّ شيء، ويكثرون محبتنا لابن الله الذي أتمَّ تدبيراً عظيماً كهذا من أجلنا، ويفسرون لنا الكتاب من دون خطر ولا يجدِّفون على الله ولا يزدرون البطاركة ولا يحتقرون الأنبياء” (5، 26، 4).
قانون الإيمان (Regula fidei):
كان التقليد في الكنيسة الأولى مبدأ تفسيرياً ومنهجاً تفسيرياً أيضاً، لأننا لا نقدر أن نفهم الكتاب فهماً صحيحاً وكاملاً إلاَّ على ضوء التقليد الرسولي الحيّ وفي إطاره. وهذا التقليد كان عاملاً أساسياً في الوجود المسيحي، لا لأنه يقدر أن يضيف شيئاً إلى ما أعلن في الكتاب، بل لأن يزوِّد بالإطار الحيّ وبالمنظور الواسع اللذين يُكتشف ويُفهم بهما “القصد” الحقيقي من الكتاب والإعلان الإلهي و”تصميمهما” الكامل. كانت الحقيقة عند القديس إيريناوس “منهجاً راسخ الأساس” و”جسماً حيّاً” (corpus) (ضد الهراطقة 2، 27، 1) “ولحناً متآلف النغمات” (3، 38، 2). لكننا لا ندرك هذا “التآلف” إلاَّ بالرؤية الإيمانية. الحق، أن التقليد لم يكن مجرَّد نقل لعقائد متوارثة “على الطريقة اليهودية”، بل كان الحياة المستمرة في الحقيقة . ولم يكن قلباً بلا حراك ومُركباً من القضايا الملزمة، بل كان تبصرا في معنى الأحداث المعلَنة وتأثيرها في كشف “الإله الفاعل”.لقد كان هذا الأمر حاسماً في حقل التفسير الكتابي. إن ج.ل.برستيج أحسن في قوله: “إن صوت الكتاب يُسمع بوضوح إذا ما فُسِّرت نصوصه برؤية واسعة وبطريقة منطقية وباتفاق مع الإيمان الرسولي ومع دليل الممارسة التاريخيَّة للمسيحية. فالهراطقة هم الذين عوَّلوا على نصوص منعزلة والمسيحيون الأصيلون تنبَّهوا أكثر من المبادئ الكتابية». وعندما لخَّصت الدكتورة إلين فليسيمانفان لير تحليلها الدقيق لاستعمال التقليد في الكنيسة الأولى، قالت: “إن الكتاب من دون تفسير ليس كتاباً على الإطلاق، وعندما نستخدمه ويصير حياًّ يكون كتاباً مفسَّراً”. فيجب أن نفسِّر الكتاب وفقاً “لمضمونه الأساسي” المعلَن في “قانون الإيمان” (Regula fidei). وهكذا يكون هذا “القانون” مَثَلاً يوجّه تفسير الكتاب. “فالتفسير الحقيقي للكتاب هو التقليد وبشارة الكنيسة”.
القديس أثناسيوس و”غاية الإيمان”:
في القرن الرابع لم تتبدَّل الأحوال، لأن الصراع مع الآريوسيين دار أيضاً حول مسألة تفسير الكتاب، على الأقل في المرحلة الأولى من هذا الصراع. فجاء الآريوسيون وأنصارهم بمجموعة كبيرة من النصوص الكتابية ليدافعوا عن موقفهم العقيدي، وأرادوا حصر البحث اللاهوتي في المجال الكتابي وحده. ولذلك كانت مواجهتهم في هذا الإطار ضرورية في بادئ الأمر. ومنهجهم التفسيري أي طريقة معالجتهم للنص، كان مطابقاً لمنهج الذين انشقوا عن الكنيسة في القرون الأولى. فهم اهتموا بالنصوص التي اختاروها لتأييد موقفهم، من غير أن يلتفتوا إلى السياق العام للإعلان. ولذلك اضطر الأرثوذكسيون إلى الاحتكام إلى فكر الكنيسة، إلى “الإيمان” الذي أُعلن مرة وحُفظ بصدق. وهذا كان اهتمام القديس أثناسيوس الأساسي ومنهجه الاعتيادي. لقد استشهد الآريوسيون بمقاطع كثيرة من الكتاب ليقيموا الدليل على ما ناضلوا من أجله وهو أن المخلِّص مخلوق. في جواب القديس أثناسيوس كان الاحتكام إلى “قانون الإيمان” واضحاً في قوله: “لنصلح، نحن الذين اقتنينا غاية الإيمان (to Skopon tis pisteos) المعنى الصحيح (orthisn tin dianian) لما فسَّروه بشكل خاطئ” (ضد الأريوسيين 3، 35). وأكَّد القديس أثناسيوس أن التفسير “الصحيح” لنصوص معيَّنة يصبح ممكناً من خلال المنظور الإيماني كله فقط: “ما يتعلَّلون به من الأناجيل يفِّسرونه بشكل خاطئ، إذا ما قبلنا نحن المسيحيين غاية الإيمان (Himas tous christianous pisteos ton skopon tis Kath) وقرأنا الكتاب مستعملين هذه الغاية قانوناً (osper Kanoni chrisameni)”.
من جهة ثانية يجب أن نهتمّ اهتماماً شديداً بالسياق المباشر لكلّ جملة وتعبير وبإبراز قصد الكاتب الصحيح بدقة (1، 54). وعندما كتب القديس أثناسيوس إلى الأسقف سرابيون عن الروح القدس أكَّد له أن الآريوسيين يجهلون “غاية الكتاب المقدس” (إلى سرابيون 2، 7 وإلى أساقفة مصر، 4) “لأنهم يهتمون بما يُقال ويتجاهلون معناه”. كانت لفظة (skopos) “لغاية” عند أثناسيوس موازنة لفظة (hypothesis) عند إيريناوس للإشارة إلى “الفكرة” الأساسية والتصميم الصحيح والمعنى المقصود وكانت لفظة (skopos) مألوفة في اللغة التفسيرية عند عدد من المدارس الفلسفية، وخاصة عند الأفلاطونية الحديثة. إن التفسير قام بدورٍ كبير في المحاولات الفلسفية في ذلك الوقت ولذلك كان إثارة السؤال عن المبدأ التفسيري ضرورياً. فالفيلسوف إيامفليخوس كان نموذجياً في هذه النقطة. لقد كان من واجب الإنسان أن يكتشف “النقطة الرئيسية” والموضوع الأساسي في البحث الذي يدرسه وأن يحفظها في ذهنه دائماً . ومن الجائز أن يكون القديس أثناسيوس ملماً بالاستخدام التقني لهذه اللفظة، ولذلك أكَّد أن الاستشهاد بفصول ومقاطع معزولة من الكتاب المقدَّس بعيداً عن قصد الكتاب الإجمالي أمر مضلِّل. ونخطئ إذا فسَّرنا لفظة (skopos) عند أثناسيوس بأنها “المعنى العام” للكتاب. “فغاية” الإيمان و “غاية” الكتاب هي الفحوى العقيدي الموجود بكثافة في “قانون الإيمان”، كما حفظته الكنيسة وكما “انتقال من “أب إلى أب” في وقت لا نجد فيه “آباء” عند الآريوسيين (في قوانين مجمع نيقية، 27)”. ولاحظ الكاردينال نيومان (Newman) أن القديس أثناسيوس عدَّ “قانون الإيمان” المبدأ الأسمى للتفسير و”عارض أفكار الهراطقة الخاصة في طريق الفكر الكنسي” (ضد الآريوسيين 1، 44)(10). فكان يوجز المرة تلو المرة معتقدات الإيمان المسيحي الأساسية عند تدقيقه في الحجج الآريوسية قبل أن يمتحن النصوص التي يتعللون بها في براهينهم، حتى يعيد النصوص إلى منظورها الصحيح، أمَّا تُرنير (H.E.W.Turner) فوصف طريقة أثناسيوس التفسيرية فقال : “أصرَّ (أثناسيوس) على اتخاذ مرمى إيمان الكنيسة العام قانوناً للتفسير ضد التقنية الآريوسية المفضَّلة التي يؤكد المعنى المنطبق على قواعد اللغة من غير أن تنظر إلى سياق الكلام وإلى الإطار العام لتعليم الكتاب بكلِّيته. فتعامى الآريوسيون عن المدى الواسع الذي يتمتع به اللاهوت الكتابي. ولذلك اخفقوا في النظر إلى سياق الكلام الذي تقع فيه نصوصهم الإثباتية. فيجب أن يُحسب معنى الكتاب نفسه كتاباً (مقدَّساً). وهذا المبدأ عُدَّ تخلِّياً عن الاحتكام إلى الكتاب واستبداله ببرهان مأخوذ من التقليد. ومن الأكيد أنه اذا وُضع في أيدِ لا تحرص عليه، فإنه يؤدي إلى تقييد كليّ للكتاب المقدس، كما حاولت عَقَديّة (دوغماتيّة) الآريوسيين والعرفانيين أن تفعل. ولكن هذا الأمر لم يكن قصد القديس أثناسيوس نفسه، الذي حسب الاحتكام إلى التقليد انتقالاً من تفسير ثمِل إلى تفسير صاح، ومن تشديد حرفي قصير النظر إلى معنى غاية الكتاب” .
ولكن يبدو أن البروفسور تُرنير (Turner) ضخم الخطر، لأن. البرهان كان كتابياً، فالقديس أثناسيوس قبل مبدئياً كفاية الكتاب المقدس الموحى به للدفاع عن الحقيقة (ضد الوثنيين 1). إن الكتاب يجب تفسير في إطار التقليد الإيماني الحيّ، بتوجيه من “قانون الإيمان”. أمَّا هذا “القانون” فلم يكن أبداً سلطة “غريبة” “تُفرض” على الكتاب المقدس. فهو “البشارة الرسولية” نفسها، المدوَّنة باختصار (in epitome) في أسفار العهد الجديد. كتب القديس أثناسيوس إلى الأسقف سرابيون : “لننظرنّ إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها وإيمانها، الذي أعطاه الرب وبشَّر به الرسل وحفظه الآباء، لأن الكنيسة أسِّست عليه” (إلى سرابيون 1، 28). هذا المقطع هو من ميزات القديس أثناسيوس، فهناك ثلاث ألفاظ متطابقة فيه “التقليد” (Paradosis) هو من المسيح نفسه، و”التعليم” (Didascalia) هو بواسطة الرسل، و”الإيمان” (Pistis) هو من الكنيسة الجامعة. وهذا هو أساس الكنيسة -الأساس الأوحد والفريد . الكتاب نفسه ينتمي إلى هذا “التقليد” الذي يأتي من الرب. وفي الفصل الختامي من رسالته الأولى إلى سرابيون يعود القديس أثناسيوس مرة ثانية إلى النقطة نفسها فيقول: “إنني سلَّمت التقليد وفق الإيمان الرسولي الذي تسلَّمته من الآباء، من غير أن أبتدع شيئاً من الخارج. فسلّمته مثلما تعلّمته من الكتب المقدسة” (1، 33). وأشار مرة القديس أثناسيوس إلى الكتاب نفسه هو “التقليد” (paradosis) رسولي (إلى أدلفيون 6). والشيء المميَّز هو أنه لم يذكر أبداً لفظة التقليد بصبغة الجمع في نقاشه مع الآريوسيين. فكان يرجع دائماً إلى لفظة “تقليد” – أي “التقليد”، التقليد الرسولي، الذي يحوي كلّ فحوى البشارة الرسولية، والذي كان موجزاً في “قانون الإيمان”. وكانت وحدة التقليد وتماسكه النقطة الأساسية والحاسمة في كلّ البرهان الذي قدَّمه.
هدف التفسير و”قانون العبادة”:
كان الاحتكام إلى التقليد احتكاماً إلى فكر الكنيسة، لأنه افتُرض أن الكنيسة كانت تملك معرفة الحقيقة وفهمها، إي حقيقة الإعلان و”معناه”. فالكنيسة كان عندها السلطان لنشر الإنجيل وتفسيره. لكن هذا لا يدلّ على أن الكنيسة كانت “فوق” الكتاب، فهي كانت تقف بجانبه مؤيِّدة إياه من دون أن تتقيَّد “بحرفه”. فالهدف الأول للتفسير كان في إظهار معنى الكتاب المقدس وغايته وبالأحرى معنى الإعلان و”تاريخ الخلاص” (Heilsgeschichte). كان واجب الكنيسة أن تبشِّر بالمسيح لا “بالكتاب” فقط. ولذلك لا نقدر أن نفهم استعمال التقليد في الكنيسة القديمة بشكل صحيح إلاَّ في إطار الاستعمال الفعلي للكتاب. فالكلمة حُفظت بشكل حيّ في الكنيسة فانعكست على حياتها وبنيتها، لأن الإيمان والحياة تلاحما عضوياً. ويحسن أن نذكر في هذا المجال مقطعاً شهيراً من “النعمة الإلهية” (de gratia Dei Indiculus) المنسوب خطأً إلى البابا كلستينوس، لأن وضعه الحقيقي هو القديس بروسبر من أكويتانيا : “هذه هي قرارات الكرسي الرسولي المقدس التي لا يمكن نقدها، والتي قضى بها آباؤنا على الابتداع المهلك… لننظر إلى الصلوات المقدسة التي يرفعها كهنتنا بتماثل في كل كنيسة جامعة في العالم كلّه وفقاً للتقليد الرسولي. وليؤكد قانون العبادة قانون الإيمان”. ويصحّ القول أن هذه العبارة في سياقها المباشر لم تكن صبغة لمبدأ عام، لأن القصد المباشر منها كان محصوراً في نقطة أساسية واحدة وهي أن معمودية الأطفال شاهد يدلّ على حقيقة الخطيئة الجدية. والحق أنه ما كان إعلاناً بابوياً جازماً، بل رأي خاص للاهوتي صرح به في جو من الصراع الحار . لكن لم تؤخذ هذه العبارة خارج سياقها المباشر ولم تغيَّر قليلاً، غفو ونتيجة لسؤ فهم، لتعبر عن المبدأ التالي: “يجب أن يبنى قانون العبادة قانون الإيمان” (crededi statuat lex orandi ut legem). “فالإيمان” وجد تعبيره الأول في الصِيغ الليتوجية والأسرارية والطقسية، و”دساتير الإيمان” برزت أولاً كجزء أساسي من خدمة إدخال المؤمنين الجدد إلى الكنيسة. يقول كيلي (J.N.D.Kelly): “إن الملخصات العقيدية الخاصة بالإيمان، تصريحيَّة كانت أم استفهامية، هي حصيلة الليتوجيا، ولذلك عكست ثباته وطواعيتها». لقد كانت “الليتورجيا” بمعناها الواسع الشامل القاعدة الأولى للتقليد الكنيسي. أمَّا البرهان الواسع الشامل القاعدة الأولى للتقليد الكنسي. أمَّا البرهان المتخذ من “قانون الصلاة” (Lex orandi) فكان يُستخدم دائماً في النقاشات التي دارت في أواخر القرن الثاني. فعبادة الكنيسة كانت تعبيراً احتفالياً عن إيمانها. ولعلَّ استدعاء اسم الله في المعمودية كان الصبغة الثالوثية المبكِّرة، مثلما كان سرّ الشكر الشاهد الأول لسرّ الخلاص في مثله. والعهد الجديد نفسه برز إلى حيِّز الوجود “ككتاب مقدس” في الكنيسة المصلية، لأنه كان يُقرأ أولاً في جو العبادة والتأمل.
القديس باسيليوس و”التقليد غير المدوَّن”:
اعتاد القديس إيريناوس أن يرجع دائماً إلى “الإيمان” كما سُلّم في المعمودية. وكان ترتليان والقديس كبريان يستخدمان البراهين الليتورجية . والقديس أثناسيوس والكبادوكيون استخدموا البرهان نفسه. لكن توسيع هذا البرهان القائم على التقليد الليتورجي نجده عند القديس باسيليوس. ففي مواجهته للآريوسيين بصدد الروح القدس بنى برهانه الأساسي على تحليله للمجدلات كما كانت تُستخدم في الكنائس. وكتابه “في الروح القدس” دوِّن بشكل اقتضائي، أي في نار الصراع اليائس، فخاطب ظرفاً تاريخياً خاصاً، لكنه عُني بمبادئ البحث اللاهوتي ومناهجه. في مبحثه هذا سعى القديس باسيليوس إلى البرهنة على نقطة حاسمة في عقيدة الثالوث الأقدس وهي مساواة الروح القدس في القيمة والكرامة (Homotimia) للأقنومين الأخرين. أمَّا مرجعه الأساسي فكان الشهادة الليتورجية أي المجدلة التي تحوي عبارة “مع الروح” والتي برهن أنها استُخدمت كثيراً في الكنائس. هذه العبارة غير موجدة في الكتاب المقدس لكنَّ التقليد صدَّق عليها. أمَّا أخصامه فلم يقبلوا إلاَّ بسلطان الكتاب المقدس، ولذلك حاول أن يبرهن شرعية الاحتكام إلى التقليد. فهو أراد أن يثبت مساواة الروح القدس في القيمة والكرامة، أي ألوهيته التي آمنت بها الكنيسة دائماً والتي كانت جزءاً من الاعتراف بالإيمان أثناء المعمودية. وكما أشار بحق الأب ب. بروش (Benoit Pruche)، كانت لفظة (homotimos)، عند القديس باسيليوس، معادلة للفظة “الواحد في الجوهر” (homoousios) (16). ولم يكن هناك الكثير من الجدة في هذا المفهوم للتقليد، إذا استثنينا الدقة واتساق الكلام. ولكنَّ للعبارة ميزة خاصة. يقول : “إن العقائد والتعاليم التي حُفظت في الكنيسة حصلنا على بعض منها من التعليم المكتوب وعلى بعض الآخر في سرّ (en mystirio) سُلّم إلينا من تقليد الرسل. ولهما نفس الفاعلية بالنسبة إلى التقوى” (في الروح القدس 66). يظن المرء في النظرة الأولى أن القديس باسيليوس أدخل هنا سلطتين وقاعدتين أي الكتاب والتقليد. والحق، أنه كان بعيداً كلّ البعد عن هذا الأمر، لأن استخدامه للألفاظ كان خاصاً. فلفظة (kerygmata) تشير عنده إلى ما يسمَّى اليوم “بالعقائد” أي التعليم الرسمي الذي يُعتمد عليه في أمور الإيمان، والتعليم العلني. ولفظة (domata) كانت عنده مجموعة الأعراف و”العادات غير المدوَّنة” وبنية الحياة الليتورجية والأسرارية. لا ننسى مفهوم لفظة (dogma) لم يكن ثابتاً وأن هذه اللفظة لم تكن قد أخذت مدلولاً ثابتاً ودقيقاً في أيامه (17). في أي حال يجب أن لا نرتبك في رأي القديس باسيليوس الذي يقول إن الـ (dogmata) سلَّمها الرسل “في سرّ” (en mystirion). ونخطئ إذا ترجمناها بلفظة “الخفية”. فالترجمة الصحيحة هي “عن طريق الأسرار”، أي تحت شكل الاستخدامات الليتورجية والطقوس و”العادات” الليتورجية. هذا ما قاله بالضبط باسيليوس الكبير نفسه عندما كتب أن “معظم الأسرار وصلتنا بطريقة غير مكتوبة”. أمَّا لفظة “الأسرار” (ta mystica) فتشير هنا بالتأكيد إلى سرَّي المعمودية والشكر الذين يرجعان، في رأي القديس باسيليوس، إلى أصل “رسولي”. في هذا الصدد يستشهد باسيليوس بالرسول بولس عندما يذكر “التسليم” التي تسلَّمها المؤمنون “مشافهة وكتابةً إليهم” (2 تسا2 : 15، كور 11: 2). فالمجدلة التي تحدثنا عنها هي الواحدة من هذه “التقاليد” (71، أنظر أيضاً 66): “شرع الرسل والآباء منذ البدء في الاهتمام بكل ما يختص بالكنائس، فحفظوا في السّر والصمت هيبة الأسرار”). والحق، أن كل المقاطع التي يستشهد بها القديس باسيليوس في هذا المجال لها طبيعة ليتورجية وطقسية، كرسم إشارة الصليب في خدمة قبول الموعوظين والاتجاه إلى الشرق أثناء الصلاة، وعادة الوقوف المستمر أثناء صلاة الآحاد، واستدعاء الروح القدس في القداس الإلهي، وتبريك الماء والزيت، ورفض الشيطان وكلّ مجده، والتغطيس في الماء ثلاث مرَّات في خدمة المعمودية. ويقول باسيليوس إن هناك العديد من “أسرار الكنيسة غير المدوَّنة” (66 و67) لم تُذكر في الكتاب، لكنها ذات أهمية وسلطة كبيرتين، وهي وسائل ضرورية للشهادة والاتحاد وأمور لا بدَّ منها لحفظ الإيمان الصحيح، وتأتي، كما يشير، من التقليد “الصامت” و”الخاص” : “من التقليد الصامت والصوفي ومن التعليم الذي لا يُعلن ولا يُقال”. لم يكن هذا التقليد “الصامت والسرّي (mystical) وغير المعلَن” عقيدة باطنية مخصَّصة للنخبة، لأن “النُخبة” كانت الكنيسة. “فالتقليد” الذي يحتكم إليه القديس باسيليوس هو الممارسة الليتورجية في الكنيسة. إن القديس باسيليوس يلجأ هنا إلى ما نسمِّيه اليوم “نظام الكتمان” (disciplina aracni) الذي كان سائداً في القرن الرابع والذي دافعت عنه الكنيسة ودعمته. فكان ذا صلة بتأسيس رتبة الموعوظين وذا هدف تعليمي وتثقيفي. وهناك، على حدّ قول القديس باسيليوس، بعض “التقاليد” التي يجب أن تُحفظ بشكل “غير مدوَّن” لئلا تدنسها أيادي الهراطقة. هذه الإشارة تعود بوضوح إلى الطقوس والممارسات، ويجب أن نذكِّر هنا أن “دستور الإيمان” و”الصلاة الربَّانية” كانا في القرن الرابع جزئين من “نظام الكتمان” هذا، وأنه لم يكن جائزاً أن يعرضا لمن هم خارج الإيمان. كان دستور الإيمان مدخَّراً للذين يقبلون إلى المعمودية، في آخر مرحلة التعليم، أي بعد أن توافق الكنيسة عليهم وتدرجهم بكل إجلال في عداد “المستعدِّين للاستنارة”. وكان الأسقف يقوم “بنقل” دستور الإيمان إليهم مشافهة، وكانوا هم يتلونه غيباً أمامه في خدمة “نقل” (traditio) و”ترداد دستور الإيمان” (redditio symboli). وكان يحثّ الموعوظين على عدم إفشاء دستور الإيمان لغير المؤمنين وعلى عدم تدوينه. فهو يجب أن يُحفر في قلوبهم. وهنا يكفي أن نستشهد “بمقدمة التعليم الديني” (Procatechesis) للقديس كيرلّس الأورشليمي في الفصلين 12و 17. وفي الغرب أيضاً أحسَّ روفينوس وأغوسطين بأنه لا يليق بالمسيحيين أن يدونوا دستور الإيمان على الورق. ولذلك لم يذكر سوزمنوس في تاريخه نص الدستور النيقاوي “الذي كان يحق للمتنصرين وللمسارّين (mystagogues) تلاوته وسماعه” (التاريخ الكنسي 1: 20). أمام هذه الخلفية وضمن هذا المحتوى التاريخي يجب أن نقوِّم ونفسر برهان القديس باسيليوس. فهذا أكد بقوة أهمية الاعتراف بالإيمان في المعمودية، الذي يتضمن التزام الإيمان بالثالوث الأقداس، الآب والابن والروح القدس. كان هذا الاعتراف “تقليداً” يُسلم “في سرّ” إلى الذين تنصروا حديثاً ويُحفظ “بصمت”. ويتعرض المرء إلى خطر زعزعة “أساس الإيمان بالمسيح” إذا رفض وتجاهل هذا “التقليد غير المكتوب”. فالفارق الأوحد بين العقيدة (dogma) و”التعليم” (kerygma) كان في طريقة نقلها: العقيدة تُحفظ “بصمت” أمَّا التعاليم “فتُنشر وتُعلن”. لكنَّ هدفها واحد، لأنهما يقدمان الإيمان نفسه ولو بطرق مختلفة. لكن هذه العادة الخاصة لم تكن مجرد تقاليد الآباء – لأن تقليداً كهذا لا يكون كافياً. فالآباء استقوا مبادئهم من “قصد الكتاب وغايته”. “إنهم اتبعوا رأي الكتاب واستقوا مبادئهم من شواهده”. إذن، لا يضيف “التقليد غير المكتوب” في طقوسه ورموزه، شيئاً إلى محتوى الإيمان الكتابي: فهو يكتفي بالتركيز على الإيمان في بعده المحرقي .
كان احتكام القديس باسيليوس إلى “التقليد غير المكتوب” احتكاماً إلى إيمان الكنيسة وإلى “المعنى الجامع” (sensus catholicus) وإلى “الفكر الكنسي”. لذلك اضطر إلى أن يزيل المأزق الذي خلقه أعداؤه الآريوسيون، الضيِّقو الأفق والمتمسكون تمسكاً كاذباً بحرف الكتاب المقدس. فرد على زعمهم قائلاً اننا لا نقدر أن نفهم قصد الكتاب وتعليمه بعيداً عن قانون الإيمان “غير المكتوب”. لقد كان القديس باسيليوس كتابياً في لاهوته بكلّ ما في الكلمة من معنى. فالكتاب عنده كان المقياس الأسمى للعقيدة (الرسالة 189، 3). وتفسيره للكتاب كان رصيناً ومتَّزناً. إن الكتاب نفسه سر “للتدبير” الإلهي وسر للخلاص الإنساني، عمقه لا يُسبر غوره، لأنه كتاب “مُلهَم”، كتاب من الروح القدس. ولذلك يجب أن يكون تفسيره الصحيح روحياً ونبوياً. فموهبة التمييز الروحي ضرورية لفهم صحيح للكلمة المقدسة، “لأن ناقد الكلمات يجب أن ينطلق من الإستعداد الذي ينطلق منه المؤلف نفسه… وأرى أنه من المستحيل على كلّ إنسان أن يأخذ على نفسه التدقيق في كلمات الرب، ما لم يملك الروح الذي يهب قوة التمييز” (الرسالة 204). ويُعطَى الروح في أسرار الكنيسة، لذلك يجب أن يُقرأ الكتاب تحت ضوء الإيمان وسط جماعة المؤمنين. ولهذا السبب كان تقليد الإيمان، كما سُلِّم من جيل إلى جيل، بالنسبة للقديس باسيليوس، المرشد الضروري والدليل في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره. إذن حذا القديس باسيليوس حذو القديس إيريناوس وأثناسيوس في هذا المجال. وكذلك أغسطين استخدم التقليد بطريقة مشابهة ولا سيما الشاهد الليتورجي
الكنيسة مفسِّر للكتاب:
كان للكنيسة سلطان تفسير الكتاب، لأنها المستودع الحقيقي الأوحد للتعليم الرسولي (Kerygma). فهذا التعليم حُفظ بطريقة حية في الكنيسة، لأن الروح أعطي لها. والكنيسة كانت تعلِّم “مشافهة” (viva voca) مودعة كلمة الله وموطدة إياها في النفوس “فصوت الإنجيل الحيّ” (viva vox Evangelu) لم يكن مجرد تلاوة لكلمات الكتاب، بل كان إعلاناً لكلمة الله كما سُمعت وحُفظت في الكنيسة بقوة الروح الذي يفعل فيها دائماً ويحييها. أمَّا خارج الكنيسة وخارج خدمتها الكهنوتية القانونية “المتعاقبة” من أيام الرسل فلم يتمّ إعلان صحيح للإنجيل ولا تبشير قويم ولا فهم حقيقي لكلمة الله. إذن إن التفتيش عن الحقيقة في مكان آخر، أي خارج الكنيسة الجامعة الرسولية، سيكون بلا فائدة. هذا كان الإيمان المشترك في الكنيسة القديمة، من أيام القديس إيريناوس وحتى مجمع خلقيدونية وما بعده. فالقديس إيريناوس كان نوذجياً في هذا المضمار، لأن الرسل، في رأيه، هم الذين حملوا ملء الحقيقة في الكنيسة : “فكل ما يتصل بالحقيقة أودع في أيديهم بأكثر وفرة” (ضد الهراطقة 3، 4، 1). والحق، أن الكتاب ألَّف القسم الأكبر من هذه “الوديعة” الرسولية، مثلما ألَّفت الكنيسة. فالكنيسة والكتاب لا ينفصلان ولا يتناقضان. فالكتاب، أي فهمه الصحيح، موجود في الكنيسة فقط، لأن الروح القدس يوجهها ويرشدها. ولذلك أكد أوريجنس وحدة الكنيسة والكتاب. وكانت مهمة المفسر، عنده، الإعلان عن كلمة الروح: “يجب أن ننتبه عندما نعلم لئلاّ نقدم تفسيرنا الخاص بدلاً من تفسير الروح القدس” (في تفسير رومية 1، 3، 1). هذا الأمر يبقى مستحيلاً خارج التقليد الرسولي المحفوظ في الكنيسة. فأوريجنس شدد على التفسير “الجامع” للكتاب، كما هو مقدم في الكنيسة: “لنصغ في الكنيسة إلى كلمة الله التي تقدم على نحو جامع” (في تفسير اللاويين، العظة 4، 5). أما الهراطقة فيتجاهلون في تفسيرهم “قصد” الكتاب الحقيقي: “فالذين يقدمون كلام الله من دون أن يقرنوه بقصد الكتاب وبحقيقة الإيمان ويزرعون قمحاً ويحصدون شوكاً” (في تفسير إرميا العظة 7، 3). إن “قصد” الكتاب المقدس يرتبط بقوة “بقانون الإيمان”. هذا هو موقف الآباء في القرن الرابع والقرون اللاحقة الذي ينسجم كلّياً مع تعليم الأقدمين. فالقديس إيرونيموس، رجل الكتاب العظيم، أورد الفكرة نفسها بأسلوبه القوي الحاد، فقال: “إن ماركيون وفاسيليدس وهراطقة آخرين… لا يملكون إنجيل الله، لأنهم لا يمكلون الروح القدس، الذي من دونه يصبح الإنجيل المبشَّر به إنسانياً. فنحن لا نعتبر أن الإنجيل (أي البشارة) يتألَّف من كلام الكتاب المقدس فغايته في معناه، لا في سطحه، في لبِّه وجوهره، لا في أوراق العظات، بل في أصل معناه. في هذا الحال يصبح الكتاب نافعاً حقاً للسامعين عندما يُبشَّر به مع المسيح وعندما يُقدم ويُعرض مع الآباء وعندما يُقدِّمه المبشِّرون به مع الروح… كبير هو خطر التكلم في الكنيسة، لأن التفسير المنحرف يحول إنجيل المسيح إلى إنجيل إنساني” (في تفسير غلاطية 1، 1، 2، مجموعة الآباء اللاتين، مين 26، 386).
نجد هنا الاهتمام نفسه بالفهم الصحيح لكلمة الله مثلما نجده في أيام إيريناوس وترتليان وأوريجنس. وبما كان إيرونيموس يقوم بإعادة صياغة كلام أوريجنس عندما قال إن “الإنجيل الإلهي” لا يوجد خارج الكنيسة، بل يوجد بديل إنساني منه. إننا لا نقدر أن نستقصي المعنى الحقيقي للكتاب (sensus Scripturae) أي الرسالة الإلهية، إلاَّ في ارتباطه بحقيقة الإيمان (veritatem juxta fidei)، وتحت توجيه قانون الإيمان. و”حقيقة الإيمان” (verias fidei) هي الاعتراف الإيماني بالثالوث. وهذه هي طريقة القديس باسيليوس. فالقديس إيرونيموس يتحدث هنا أولاً عن إعلان الكلمة في الكنيسة “لمن يصغي إليها” (andientibus utilis est).
أوغسطين والسلطان الجامع:
بهذا المعنى يجب أن نفسر قول أوغسطين الشهير والمدهش حقاً : “لو لم يحركني سلطان الكنيسة الجامعة لما آمنت بالإنجيل” (V.f.epistolum fundaminti 6). يجب علينا أن نقرأ هذا العبارة ضمن سياقها. فأوغسطين لم ينطق بهذه العبارة بالأصالة عن نفسه، إنما بالأصالة عن الموقف الذي كان على المؤمن العادي أن يتخذه عندما يواجه الهراطقة، الذين يزعمون أنهم أصحاب السلطان. في هذا الحال، يليق بالمؤمن البسيط أن يحتكم إلى سلطان الكنيسة، التي تلقى فيها ومنها الإنجيل نفسه (أي البشارة) : “إنني آمنت بالإنجيل نفسه، لأن مبشرين “جامعيين بشروني”. فالإنجيل وتعليم الكنيسة الجامعة لا يفصلان. وأوغسطين لم يسمع إلى “إخضاع” الإنجيل للكنيسة، بل أراد أن يشدد على أننا نتلقى “الإنجيل” في إطار التبشير الجامع في الكنيسة، لأنه لا ينفصل عنها. في هذا الإطار وحده يأخذ الإنجيل مكانه ويُفهم فهماً صحيحاً. والحق، أن شهادة الكتاب بينة وواضحة كل الوضوح عند المؤمن الذي وصل إلى نضج “روحي”، وهذا ممكن في الكنيسة فقط. لذلك قاوم أوغسطين الأوهام التي يتعلل بها التفسير المانوي عبر هذا التعليم وعبر سلطان (auctoritas) البشارة اللذين يتصلان بالكنيسة الجامعة. فالإنجيل لا يخص المانويين. أما “سلطان الكنيسة الجامعة” فلم يكن مصدراً مستقلاً للإيمان، بل كان مبدأً ضرورياً للتفسير الصحيح. إننا نقدر أن نقلب هذه العبارة فنقول: يجب أن لا يؤمن المرء بالكنيسة ما لم يحركه الإنجيل. فالعلاقة متبادلة بنيهما بشكل تام
الأب جورج فلوروفسكي
من كتاب :الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد

 

 

 

 

 

مهمة التقليد في الكنيسة القديمة