...

قديسو آحاد الصوم

 

 

هم ثلاثة قدّيسين. أوّلهم هو القديس غريغوريوس بالاماس أسقف تسالونيكي الذي نعيّد له في الأحد الثاني. وثانيهم هو القدّيس يوحنا كاتب سلم الفضائل الذي نعيّد له في الأحد الرابع. وآخرهم هي أمّنا البارّة مريم المصرية التي نعيّد لها في الأحد الخامس.

لن ندخل، في هذه العجالة، في تفاصيل سيرهم. فهي منشورة في كتيّب عرّبته منشورات النُور الارثوذكسية، ويمكن أن يعود اليه من لم يطلع عليها بعد، ويقرأه في هذا الصوم، لينتفع من حبّهم وإخلاصهم لله.

ما يهمّنا هنا هو التعييد لهم. فالتعييد للقدّيسين من أسس حياتنا في المسيح. وهذا مغزاه أنّ الكنيسة المنتصرة والمجاهدة هي واحدة، وأنّ القداسة ممكنة وتخصّنا. فما يجب أن نعرفه دائماً هو أنّ هدف الالتزام الكنسيّ هو القداسة، وأنّ القدّيسين تالياً حاضرون في تاريخنا ليشفعوا بنا أمام الله ويساعدونا على انتشالنا من كثافة التاريخ وكلّ مسافة، لنمتدّ، “الآن وهنا”، والى الأبد، ونذوق ومضاته بالطاعة والمحبّة.

تضعنا الكنيسة أمام أشخاص مثلنا كرّسوا حياتهم لله وتحثنا على اتباع الطريق الذي سلكوه، كلا في موقعه، لنذوق غلبتهم ونتقوّى. فالكنيسة مربّية، وتقوم تربيتها على أساس واحد، وهو التعليم الإلهيّ المتجسّد حياة. تقول لنا أشياءها وتعرض علينا الذين صدّقوا أنّ المسيح أقوى من الدنيا، ليكتمل تبليغها. فليس الهدف من التعييد للقدّيسين او معرفة أخبارهم اليأس من أحوالنا، ولكن أن نتوب ونطلب القربى ونصدّق فعل نعمة روح الله التي تسكننا. يقول القديس يوحنا السلّمي: “من يسمع أخبار فضائل القدّيسين الفائقة الطبيعة وييأس من نفسه يكون كثير الغباوة. لأنّ هذه الأخبار من شأنها بالعكس أن تفيدك جدّا بأحد أمرين: فهي إما تحثك على مماثلتها بشجاعة مقدّسة، او تأتي بك الى معرفة نفسك معرفة جزيلة وتالياً الى تأنيبها بتواضع مثلث القداسة اذ تظهر لك عمق ضعفك” (سلم الفضائل، المقالة 26/126).

هؤلاء القدّيسون الثلاثة كانوا كلهم نسّاكاً، أي أشخاصاً عاشوا لله وحده. صحيح أنهم، او اثنين منهم، لم ينقطعوا، بمعنى او بآخر، عن الناس (مريم في آخر حياتها التقت براهب قدّيس اسمه زوسيماس)، فالقدّيس غريغوريوس لم يستطع رفض الأسقفيّة ودافع عن الإيمان الأرثوذكسي في وجه بعض مشوّهي التراث الحقّ، وأنّ السلمي خالط الرهبان أمثاله وترك لنا كتاباً غاية في الأهمّيّة (عرّبته ايضا منشورات النور). ولكنّهم كانوا طالبي الوحدة مع الله أولاً. ولعل الكنيسة اختارت التعييد لهم في هذه الفترة لتقول هذا الأمر الخاصّ، وهو أننا إن لم نلتحم بالله التحاماً كلياً لن نقدر على أن نمدّ صورته الحقيقيّة الى الناس لينشدوا قربه، ولا أن ندافع، تالياً، عن العقيدة المستقيمة.

فالتأكيد على النسك، في مسيرة الصوم، دعوة الكنيسة لنا الى العودة الى الله وابتغاء قربه أولاً. فالصوم ليس انقطاعاً عن بعض الأطعمة الحلال فحسب، ولكنّه، في جوهره، مصالحة مع الله واختلاء به، وهو يفترض ايضاً موقفاً من العالم. نصوم لنقول جميعاً، رهباناً وعوامّ، إنّ هذه الدنيا زائلة، وإنّ الباقي هو وجه الربّ.

ذلك أنّ الكنيسة لا تخاطب أعضاءها بتمييز، اي لا تقول لبعضهم شيئا وللآخرين شيئا مختلفاً. فالنسك يخصّنا كلنا، وهو عصب مسيرتنا الروحيّة. وهذا يتطلب قناعة راسخة وسلوكاً جديداً، أي موقف حياة لا ينحصر بفترة زمنيّة (مدّة الصوم). فما يطلبه الله منا في هذه الفترة يطلبه دائماً. أي إنّه يريدنا أن نحافظ على محبّته وأن نبقى على موقفنا من هذه الدنيا، ولو انتهى موسم الصيام.

معنى ذلك أنّ الصوم يساعدنا على تأسيس حياة جديدة، فنختار الرب سيّداً عليها في تفصيلها وتفاصيلها. لا نقبل مثلا، إن كانت حياتنا مخالفة، أن نعود بعد انتهاء زمن الصوم الى ما كنّا عليه قبله. هذا، طبعاً، لا يعني ألا نأكل او نشرب او نلبس بعد الفصح. ولكن أن نعرف أنّ حياتنا لا تقوم على كلّ ذلك، بل على محبّة يسوع الذي بذل ذاته من أجلنا. فعمل الربّ الخلاصيّ يحتاج فهمه الى حياتنا كلها. هذا هو، في الحقيقة، ما يفترضه النسك المقبول.

الكنيسة تدعونا، في هذا التعييد المثلث، الى أن نقف وهؤلاء القدّيسين في خط الإخلاص عينه. فإن اعتقدنا أنّ القداسة لا تخصّنا، كما يقول معظم الناس، نخرج على الحقيقة الوحيدة التي صدّقها غريغوريوس ويوحنا ومريم، وجميع القدّيسين، تصديقاً مذهلاً. أمّا إذا صحّحنا اعتقادنا فيكون تعييدنا استباقاً لليوم الذي سيجمعنا الله فيه معهم، ليدوم فرحنا بالربّ القدّوس وحده.

عن نشرة رعيتي 2002
http://www.orthodoxonline.org

 

 

 

 

 

 

قديسو آحاد الصوم