...

إيمان الصيّاد وإيمان الرسول “لا تَخفْ فإنك من الآن تكونُ صيّاداً للناس” (لوقا 10:5)

 

 

 

عدّة مرّات استخدم يسوع مع بطرس رموزاً معينة ليُخبره بما هو أعمق. هنا من دعوته الأولى، قال له يسوع سأجعلك صيّاداً للناس، بناءً على أنّ مهنته كانت الصيد. مرّة أخرى سيقول له وهو بطرس (صخرة): “على هذه الصخرة أبني كنيستي”… بالطبع يستخدم يسوع هذه الصور لا للحصر. فهو يدعو الجميع من مِهنِهم، كانت ما تكون، ليصيروا رُسُلاً حيثما يكونون. وعلى كلّ، إيمانٌ كإيمان بطرس سيبني كنيسته، ولو تطابقت في حالة بطرس صورةُ إيمانه مع اسمه.

هناك مرحلتان من الإيمان عند بطرس في هذا النصّ الإنجيليّ. أولاً مرحلة إيمانُ الصيّاد اليهوديّ التقيّ، الذي يناقش الأمور فيقبلها وقد يرفض منها، وبالنهاية يُجازف بمخاطرة الإيمان قليلاً إذا أراد أن يُعطيها ولو تجاوزت، إلى حينٍ، المنطق. فهنا في البداية يقبل بطرس كلمات يسوع كمعلّم يهوديّ، ويُقدّم له سفينته ليستخدمها كَمِنبرٍ للوعظ ويُصغي إلى كلماته، ثمّ لمّا طلب منه يسوع أن يصطاد في العُمق بعيداً عن الشاطئ وفي النهار وليس في ساعات الليل. في حين أنّه لم يصطدْ شيئاً لا في المكان المناسب ولا بالزمان المناسب، فكيف بنا الآن بظروفٍ معاكسة للصيد؟ فيسوع يطلب منه أن يُلقي الشِباك في ظروفٍ عكس المنطق. ولكن إيمان بطرس، بعد أن استمع لكلمات يسوع، أوصله لقناعةٍ أن يسوع هذا هو معلّمٌ صالح. وعلى كلمته هذه إذن يُمكنه أن يبني رجاءً ما فيلقي الشبكة، وكان الصيدَ الأوّل العجيب، أنّ الشبكة امتلأت حتّى تمزّقت.

في المرحلة الثانية وبعد هذا “الصيد العجيب” يصير إيمان بطرس أقوى بكثير. فنراه لا يصغي ليسوع ولا يُفكّر به كمعلّم بل يسجد له ويناديه كـ”ربّ”. هناك يسوع كان له مُعلّماً، هنا صار له ربّاً، هناك يناقشه بالمنطق ويجازف بالإيمان، وهنا ينذهل أمامه بالشُكر ويشعر بعدم الاستحقاق صارخاً: اخرُجْ عنّي يا ربّ فإني رجلٌ خاطئ!

الإيمان الأوّل يَدرُج الدينَ ضمن المعطيات العقلية ويُدرج المسيح من ضمن الشخصيّات التعليميّة. أما الإيمان الثاني فهو يتجاوز العقل إلى حيّز الوجود والكيان. الإيمان الثاني لا يعرف ديناً ومهنة، ويوماً لنا ويوماً لربّنا، ولا ينظر للدين كعِلمٍ أو معلومة. الإيمان هنا ليس مجرّد مجازفة على رجاءٍ خاب أم صاب. إنّه إيمانُ صيّاد الناس من درجةٍ ثانية جديدة تقوم على معرفة يسوع فوق لغة الأديان، لو صحّ القول على معرفة يسوع كربٍّ وسيّدٍ للحياة. وتصير مهنة المسيحيّ واحدة وهي، كما يقول القديس غريغوريوس النيصصي، أن يصير مسيحيّاً-مسيحاً، أو رسولاً وسفيراً للمسيح في العالم مهما كانت مهنته.

إيمانُ “صيّاد الناس” يجعل الإنسان يترك كلّ شيء ويتبع يسوع، ليس لأنّ الإيمان يطلب التجرّد عن الأعمال، حاشى، ولكن لأنَّ الإنسان يجدُ الدّرهم الضائع والكنز المخفيّ فيبيع كلّ شيء ليشتريه. لقد زاول بطرس صيد السمك دعوة يسوع إليه ليجعله صيّاداً للناس، ولكن من موقعٍ جديد ومن منظورٍ جديد كسفيرٍ للمسيح يحيا في أعماله ولكنّه يتّجه إلى عمله الحقيقيّ؛ فيسوع بالنسبة له سيدٌ لحياته وليس مجرّد مُرشدٍ أو معلّم، إنّما هو مَنْ به نحيا ونتحرّك…

أيُّ إيمانٍ لنا نحن، الإيمان العقلاني بالأديان، أم الإيمان الوجودي بيسوع ربّاً وغاية وطريقاً وحياة؟

إن الدرجة الأولى جيدة عندما تكون، وهي كذلك، عتبةً للدرجة الثانية. لا ننظرنّ إلى المسيحيّة كتعليمٍ جديد أو قديم. بل لنشربنّ من المسيحيّة عصير الكرمة الجديد، حيث يسوع هو خبزُ الحياة ونحنُ سفراءَ له، نحمله لكلّ العالم تاركين كلّ شيء في وسط كلّ شيء ونتبعه. آميـن

 

المطران بولس (يازجي)
متروبوليت حلب والاسكندرون وتوابعهما

 

 

 

 

 

إيمان الصيّاد وإيمان الرسول
“لا تَخفْ فإنك من الآن تكونُ صيّاداً للناس” (لوقا 10:5)