...

يا نبع المجد والتواضع

 

 

يا نبع الحريّة، يا معلماً كسر قيود العبوديّة. يا من وأنت سيدٌ ونبع السيادة إرتضيت أن تصير إنساناً مثلنا آخذاً صورة عبد. يا من علمنا برسوله بولص أن لا نأنف من العبوديّة كرامة لأجل اسمك. يا من علَّمت السادة أن لهم سيداً في السماء إليه مآبهم، ومنه مكافأتهم. يا من علمتنا أن الحريّة بتخلي الإنسان عن ذاته، وعن أهوائه، وعن كل شيء يكيلنا في صعودنا إليك، وقد قلت لنا يكفي لكلِّ يوم شرُّه.
وفي كلامك مع السامريّة عند بئر يعقوب أنت يا سيد يعقوب وآل يعقوب، وكل السالكين في طرقه قد قلت لها ولتلاميذك: “ان الساجدين يسجدون ويعبدون بالروح والحق”.
يا من علمتنا، وتعلمنا بروحك القدوس بواسطة رسلك وأنبيائك أن العبادة لك لا تقوم إلا بالحريّة. كلامك هذا نشعره أسمى وأعلى من مفاهيمنا ومداركنا فكيف يمكن أن نعبدك بالحريّة. قال لنا قديسك باسيليوس الكبير أن العبادة لك لا تصح إلا بالمحبّة، والعلاقة معك لا تستوي إلا بالحريّة، وعلى هذا أكّد الناسك العظيم اسحق السرياني وغيره من الذين طرقوا أبواب الحريّة بدمائهم وتساقطِ قطراتِ عرقِ جهادهم ونسكهم.
ولكنك قلت لنا، وهنا لا أحاسبك على قولك، ولا على كلمة شجعتنا بها لأنك أنت الكلمة، وأنت الحق، ولا يحدك شيء، ولا يصفك، ولايقوم أمام وجهك. قلت لنا: نجم عن نجم يمتاز بلمعان. ومن يسقي أحد إخوتي هؤلاء الصغار كأس ماء بارد باسم نبي فأجر نبي يأخذ، ومن يسقي أحد إخوتي هؤلاء الصغار كأس ماء بارد باسم صدِّيق فأجر صدّيق يأخذ. فكما في السماء كذلك على الأرض هناك مراتب ودرجات، وهنا على الأرض مراتب وأحوال روحية.
كيف سيفهم الحريّة من لم يتحرر من جوعه، كيف سيتكلم ويعيش المحبة العظمى من لم يستطع أن يتخلى عن حبه لذاته وإيثاره لنفسه على أحبائك، وحتى عليك في بعض أحيانه.
هل يطرد السيد عبداً إذا عبده بعبوديّة صادقة؟ هل يطرد رب عمل أجيراً ينتظر أجرته؟ لا السيد سيطرد عبده الصادق في عبوديته وخوفه وخشيته، ولا رب العمل سيحرم عاملاً من أجرته. فإذا كانت هذه أحوال البشر فكيف هي الحال معك، وأنت قد دفعت أجرتنا، وحملت آثامنا، ومحوت صك خطايانا لأنك أنت السيد في كلِّ شيء، ونبع كلِّ خير، ومعلم كل المحبة لأنك أنت المحبّة.
نحن نحاول أن نقيم علاقة صداقة معك، ولكننا لا نعرف كيف نقيمها، وقد صدق رسولك في رسالته الى كنيستك في روما. نحن نصلي ولا نعرف كيف نصلي، الروح يشفع فينا بأنات لا توصف.
نعترف ونقرُّ كيف لا نفكِّر بك سيداً. كيف لا نفكِّر بك مصدراً لرجائنا وأجرنا.
نعم إننا نعبدك، يا رب العبيد والأحرار بكامل عبوديتنا لك شئنا أم أبينا، ولفهمنا شدَّة عجزنا عن الأتيان بشيء إلا بمعونتك، ونسجد لك كعبيد الملك أمام عرش سيدهم، وقد لا تتجاسر نفوسنا أن تدرك اننا واقفين في حضرتك، ولهذا نتلقى كلماتك من أيدي وسائطك ومعاونيك يا من أنت مكتفٍ بذاتك، والجميع بحاجة لمعونتك. إننا نعبدك بالعبوديّة قياساً على حالنا، ولن ترفضنا من أمام وجهك، ولن تعرض عنا إذا ما وقفنا كعبيد أمام أبواب بيتك.
إننا نعبدك عبوديّة الأجراء فمن أين لنا النعمة والقداسة والمواهب إلا منك، وأنت قد دعوتنا أن نكون قديسين وكاملين، ودعوتنا لوراثة ملكوتك. إن نفوسنا تتلذذ بالأجر المقدّم لنا بين حين وحين، ولكنك بذلك تجعلنا أشدَّ تعلقاً بك، وهياماً بك، وبذلك أنت ترفعنا إليك رويداً رويداً حتى لا نقنع أنفسنا بما لسنا عليه. من يعطي العبيد حق المشاركة في الخيرات إلا سيّدهم، ومن يعطي الأجراء أجرة أتعابهم إلاّك أنت يا مالكاً لكل شيء. الأرض والسماء والساكنين فيها. وكلها إياك تترجى أن تعطيها طعامها. فأعطنا ما نحتاج إليه بأية طريقة أتينا بها إليك، وبأية حالة إقتربنا منك.
هذا تضرُّع أطرحَه أمام قدميك، وعلى عتبات أبواب ملكوتك يا من لا يخيب أمام سائل، ولا يعرض عن رجاءِ طالب. أجب طلبتنا، وخذ بأيدينا إلى العمل في بناء مساكننا من حوالي عرشك. ففي قلوبنا شوق إليك، وفي أجسادنا ما يمنعنا من المضي معك، ولكن أنت أعن نفوسنا وأجسادنا واشفها من كلِّ مرض لكي بكليتنا ندرك أنك أنت وحدك الحريّة والمحبة، ولا نصل إليها إلا بك يا من له المجد والقدرة والملك الى الأبد.

باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، العدد 44، الأحد 1/11/2015

 

 

 

 

 

يا نبع المجد والتواضع