...

ملامح الحياة الرّهبانيّة والأنطاكيّة بخاصّة إلى اليوم.

 

 

 

منشأ الحياة الرّهبانيّة.

   لا تطلب المسيحيّة أقلّ من الكمال الإنجيليّ. كونوا كاملين كما الآب السّماويّ هو كامل. هذا للجميع. لا نصف مسيحيّة ولا ربع مسيحيّة. تكون مسيحيًّا تَنشد المسيح بكلّ جوارحك أو لا تكون بالمرّة. ليس الضّعفُ البشريّ مشكلة بل حسنة، لأنّه يستدعي النّعمة الإلهيّة. قوّتي في الضّعف تُكمَل. ولا حتّى المشكلة أن نخطئ. جلّ من لا يخطئ. المشكلة أن يخطئ المرء عمدًا. الخطيئة الّتي نرتكبها قسرًا التّوبة عنها ميسَّرة نسبيًّا، فيما الخطيئة الّتي نرتكبها عمدًا التّوبة عنها موجعة وقصاص الكنيسة عليها صارم. مَن اعتاد الخطيئة عن عمد يموت حسُّه بالخطيئة، لذا توجعه الكنيسة حتّى لا يصاب عصبُه بالضّمور. معموديّة الكبار كانت شائعة في القديم إلى جانب معموديّة الأطفال. ليس السّبب الإيمان الشّخصيّ أو الدّرس أو الفهم. السّبب الأساسيّ هو الوعي أنّ مَن اعتمد لا يخطئ، مِن بعد، عمدًا، حتّى إنّ ثمّة مَن قال: الخطيئة، بعد المعموديّة، ليست للمغفرة!. آخرون قالوا: فقط على فراش الموت تُحلّ!. طبعًا، لم يكن هذا موقفَ الكنيسة، إذ التّوبة متاحة أبدًا – ربّك غفّار الذّنوب – لكن لتأكيد خطورة الخطيئة عن عمد!.

   من هذا المنطلق، المسيحيّة رهبانيّة الطّابع، بمعنى أنّها كلّيّةٌ في التماس حقّ الإنجيل. لم يكن هناك رهبان، في الكنيسة، في القرون الثّلاثة الأولى، كما نعرف الرّهبان. السّبب: أنّ كلّ مؤمن كان راهبًا، بهذا المعنى!. فلمّا أخذ التّهاون والاسترخاء يتسلّلان إلى الكنيسة، إثر سلام القدّيس قسطنطين الملك، بدءًا من العام 312 م، شرع أقوام يخرجون إلى البراري والقفار والجبال، كما عن الحالة المستجدَّة!. الدّافع كان الشّعور المتنامي بأنّ ثمّة فتورًا مريبًا، بدأت طلائعه تدبّ في أوصال بعض المؤمنين وتشيع، أخافهم!. هذا كان نذير خطر، ردُّ الفعل عليه كان التّشديد على التّمسّك بالأمانة ليسوع كاملةً، وتأكيد أنّ المسيحيّة كلّيّة الطّابع أو لا تكون. أيضًا، مَطالع حياة البرّيّة، أي الرّهبانيّة، كانت تتوخّى، في عمقها، حفظ حياة الشّهادة في الكنيسة الأولى، وهي، في الحقيقة، امتداد لها. بإزاء الشّهادة الحمراء، بخاصّة خلال حملات الاضطهاد العشر، الكبيرة، برزت الشّهادة البيضاء المعبَّر عنها بسيرة النّسك، التزامًا للقول السّيِّديّ: مملكتي ليست من هذا العالم، وللقول البولسيّ: ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية!.

   في خلفيّة هذه الرّؤية الوجدانيّة، نفهم قول القدّيس باسيليوس الكبير (+ 379 م)، أنّ الرّهبانيّة هي طريقة الحياة الوحيدة الموافقة لحياة المسيحيّ، والطّريقة الشّركويّة في الحياة هي الشّكل الأكمل للحياة الرّهبانيّة. طبعًا، هذا يحدونا لأن نميّز بين الرّهبانيّة كمضمون والرّهبانيّة كشكل. الرّهبانيّة، كمضمون، هي الحياة الإنجيليّة، كما يجدر بكلّ مؤمن أن يلتزمها، لذا قلنا إنّها للجميع. والرّهبانيّة، كشكل، كأسلوب من أشكال أو أساليب الحياة المسيحيّة، هي لمَن يلتزمون نظام الحياة الرّهبانيّة كما نعرف. بعض يتزوّج وبعض يبقى عازبًا. لا هذا هو الموضوع ولا ذاك. كِلا النّمطين يمكن أن يكون للخلاص ويمكن أن يكون للهلاك. ليست القيمة لأيّ منهما، القيمة هي لحياة البتوليّة. أجل للبتوليّة!. هذه للجميع بلا استثناء!. لا مسيحيّة بدون بتوليّة!. هذا، طبعًا، إذا فهمنا البتوليّة باعتبارها صيرورة الإنسان بيتًا لله، وفقًا للقول الإلهيّ: أنتم هيكل الله، أو بيت الله، وروح الله ساكن فيكم!. لفظة “بتول” أو “بتيل”، بالمناسبة، مصدرها عبارة “بيت إيل”، أي “بيت الله”!. القول نفسه يُقال في “العفّة”. كلّ إنسان عفيف أو لا يكون مسيحيًّا!. هذا، طبعًا، إذا فهمنا العفّة باعتبارها عفًّا عن المنكَر، أي عمّا لا يرضي الله، ما يتضمّن السّلوك بأمانة في الوصيّة الإلهيّة!. ليست العفّة موضوع جسد، كأنّ المتزوّج أقلّ عفّة والرّاهب، غير المتزوّج، أكثر عفّة، بل العفّة موضوع نقاوة القلب، أوّلًا، يُعبَّر عنها، فيما يُعبَّر عنها، بما للجسد. ما هو الزّنا؟ ليس هو تعاطي الجسد خارج حدود الشّريعة فقط!. بالأحرى، المدلول العميق للزّنى هو تعاطي الجسد على نحو مخالف لوصيّة المحبّة، بالمعنى الإنجيليّ الصّارم للكلمة!. الزّنا، أوّلًا، نيّة غير نقيّة في القلب، يعبِّر عنها الإنسان بالفكر، أو بالفكر والجسد معًا!. من هنا القول: مَن تطلّع إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. وما يُقال في العلاقات الحميمة، يُقال في الأكل وسواه. ليس الأكل رذيلة ولا الصّوم فضيلة في ذاتهما، بل تدابير بشريّة مرتبطة بالحاجة والإرادة. الرّذيلة، في هذا السّياق، هي الشّراهة، والفضيلة، الّتي تخالفها، هي عفّة البطن، وهكذا دواليك.

 

الرّهبانيّة الأنطاكيّة في أوائلها.

   ليس دقيقًا القول إنّ الرّهبانيّة انطلقت، أوّل ما انطلقت، من مصر، وأنّ القدّيس أنطونيوس الكبير هو أبو الرّهبنة؛ وثمّة مَن يقول بالقدّيس بولس البسيط أوّل راهب ناسك معروف. هذا، بعامّة، ما شُيِّع. لكنْ، لا وثائق تُثبت أسبقيّة الرّهبنة في مصر على الرّهبنة في أنطاكية. الرّهبنة الفلسطينيّة تأثّرت بالمصريّة، هذا أكثر وضوحًا. أمّا الأنطاكيّة فلها، في ما يبدو، سيرورتها الخاصّة. ما هي الأسماء الأولى الّتي أشير إليها في الأنطاكيّة؟ الزّمن هو في حدود منتصف القرن الرّابع الميلاديّ، أو ربّما قبل ذلك بقليل. المنطلق، في ما يبدو، هو بلاد ما بين النّهرين. فمن نواحي نصيبين، وفق ثيودوريتوس المؤرّخ، جاء يعقوب النّصيبيني، أوّل الرّهبان السّوريّين. ومن نواحي آمد والرّها أتى النّسّاك المشهورون أمثال إبراهيم قيضونايا ويوليان سابا، وكذلك أيونِس فادانا، الّذي أشار سوزومينوس المؤرّخ إلى أنّه أوّل مَن أدخل الحياة النسكيّة في ما بين السّوريّين. هذا، في تقدير سوزومينوس، يشبه أنطونيوس الكبير في بلاد مصر. ويَتّخذ اسمُه، بين العارفين، صيغًا شتّى: أيونِس أو آون أو أفجانيوس. ثيودوريتوس، من ناحيته، يذكر أنّه، في النّصف الأوّل من القرن الرّابع، كانت هناك أديرة منظّمة في جهات العاصي والأنطاكيّة وجهات الفرات. ثمّ، في النّصف الثّاني، من القرن ذاته، نمت مراكز إضافيّة في خالكيس والكيليكيّة وأفاميا والفينيقيّة وسواها. هذا وفق العلّامة فوبوس.

   البدايات، في ما يبدو، كانت فردانيّة نسكيّة؛ ثمّ هذه أولدت النّمط الشّركويّ، بالإضافة إليها. النّقلة من الحياة النّسكيّة الصّارمة إلى الحياة الشّركويّة عبرت، في تقدير العلّامة فوبوس، في البلاد السّوريّة، بمرحلة تُعرَف بـ”Hîrtâ”، والمقصود بروز قلالٍ انتظمت، كيفما اتّفق، حول قلّاية رأس الجماعة. وما إن انوجدت الجماعة، حتّى بات لازمًا توفير مكان اجتماع لها للصّلاة، وآخر بمثابة مخزن للطّعام. الشّركويّة الأنطاكيّة كانت لها، في ذلك الحين، خصوصيّتها. ففيما رهبان مصر وفلسطين كانوا يلتقون السّبت والأحد، وينصرف كلّ إلى محلّه خلال بقيّة أيّام الأسبوع، فإنّ الأنطاكيّين كانوا يجتمعون كلّ يوم للصّلاة. فجماعة يوليانا سابا الرّهبانيّة، الّتي عَدّت، أوّلًا، عشرًا ثم مائة، مطلعُ النّهار، قبل الفجر، لها، كان إنشادًا، ثمّ يذهبون اثنين اثنين يُمضيان النّهار سويّة في الصّلاة، واحد يقرأ أو يصلّي والآخر يركع، ثمّ يتناوبان. وعند المساء يعودون. ويُختم يومهم بخدمة صلاة مسائيّة. الشّركويّة انتشرت، بخاصّة، في القرنين الخامس والسّادس. إلّا أنّ التّمايز الفردانيّ بقي سائدًا. بعضهم أكّد العمل وبعضهم الفقر الكامل والاعتماد على الحسنات. الكلّ، كلّ الشركات، بعامّة، أقامت قريبة من القرى والأراضي الزّراعية.

 

مزايا الرّهبانيّة الأنطاكيّة.

   منذ مطلع الرّهبانيّة الأنطاكيّة، امتازت بالفردانيّة والصّرامة الزّائدة. أوّل ظهور الرّهبان عُرفوا بـ”الرّعيان” لأنّهم كانوا يكتفون من الطّعام بالأعشاب. ينتشرون على قمم الجبال السّوريّة، يصلّون ويسبّحون. لا بيوت لهم. سيّاح. بتعبير القدّيس أفرام السّوريّ: كانوا يهجرون المدن والضّجيج ويفضّلون الجبال والقفار. يتجوّلون كأموات بين القبور، أو يعيشون في المغاور وثقوب الأرض. يلبسون أردية من شَعر. يُتكئون رؤوسهم على الحجارة. ألسنتهم كنائس لهم. كانوا كهنة لأنفسهم. يرعون كالوحوش في القفر. حيثما يصادفهم مغيب الشّمس يقضون ليلهم. وكثيرون منهم ماتوا في وقفة الصّلاة، أو مستندين إلى صخرة، أو ماشين في وسط الجبال.

   هذا في شأن المسمَّين رعيانًا. أمّا الأديرة، فيحكي القدّيس أفرام عن أديار فيما بين النّهرين. هو نفسه عاش، في دير منها، في الرّها، كراهب. وأخبر بلاذيوس أنّ وباء انتشر في الرّها، جعل أفرام يخرج من قلّايته، ويتقدّم من أغنياء الرّها آخذًا على عاتقه العناية بالمصابين سنة بأكملها. وقد رقد، بعد ذلك بشهر، في قلّايته، في حدود العام 378 م. القدّيس أبيفانيوس القبرصيّ، من ناحية أخرى، يذكر، فيما بين النّهرين، أديارًا تُعرف بـ”المانذرا”، أي “الحظائر”، ويقول عن الرّهبان، هناك، إنّهم يطلقون شعرهم طويلًا كالنّساء، ويرتدون أردية بسيطة. رهبان حرّان، وفق سيلفيا (إيثيريا)، يأتون من القفار ليلتقوا مرّتين في السّنة، الفصح وذكرى القدّيس إبراهيم الخليل، ثمّ يعودون أدراجهم ولا يبين لهم أثر.

   في أنطاكية، عينها، للذّهبيّ الفم كلامه في شأن الرّهبان. هو نفسه عاش أربع سنين في دير من أديرتها وسنتين حبيسًا. يتحدّث عن أنطاكية كمدينة كبيرة للفضيلة. جبال خضراء. للنّاظرين من بعيد، مصابيح تضيء من فوق. ميناء للهدوء. من كلّ جنس وطبقة. مساوون للملائكة. يطلب النّاس بركتهم ونصائحهم. ينتقل رئيسهم باكرًا جدًّا ليوقظ الرّاقدين. يقفون، في صلاة مشتركة، جوقًا واحدًا. على تسابيحهم تستيقظ الطّبيعة. ولمّا يطلع النّهار يمضون إلى أعمالهم بلا استثناء ليعيشوا ويحفظوا أنفسهم وإخوتهم. يعتنون بالغرباء والمرضى. الواحد يداوي جريحًا ويقود الآخر أعمى ويُسعف الثّالث كسيحًا. والرّئيس كان الأب. يقسم النّهار إلى أربعة أقسام من العمل، وعند نهاية كلّ قسم يدعو الرّهبان إلى صلاة مشتركة، متقدِّمًا هو في التّرتيل!. كثيرون لا ينامون تحت سقف ونورهم ضوء القمر. موائدهم حافلة بالآكلين من الفقراء والمعطَّلين. يلبسون الأسوَد من وبر الجمال أو شعر الماعز أو من الجلد. كلّهم بغير نعل. ما بينهم اتّفاق كامل ومساواة. يتعاملون باللّطف. عبيد لذات العبوديّة وأحرار لذات الحرّيّة.

   لم تكن توجد أنظمة وقوانين مكتوبة للحياة الرّهبانيّة، في ذلك الزّمان، بل عادات وأمثلة. المقوِّمات روح تقشّف صارم، لا عند الحبساء فقط، بل عند ذوي الحياة المشتركة أيضًا. أنظمة النّسك عند المتوحّدين كانت  من ابتكارهم الخاصّ.

 

أسماء وأديرة معروفة وأنماط خاصّة.

   عندك في النّسك السّوريّ الصّامتون والهادئون والّذين لا سقف لهم. ثيودوريتوس القورشيّ أورد اسم أكبسيماس الّذي حجر على نفسه ستّين سنة لا يراه أحد ولا يتكلّم مع أحد. قضاها في النّظر الدّاخليّ إلى ذاته. يعقوب الكبير كان في العراء تمامًا صيف شتاء. نساء، أيضًا، عشن في العراء، كمرانا وكيرا الحلبيّتين. من البلاد السّوريّة خرج النّسك العموديّ، لا سيّما مع سمعان العموديّ الكبير وسمعان العجيب. وكذلك رهبنة الّذين لا ينامون، في الفرات، وبعد ذلك في القسطنطينيّة. اسم ألكسندروس ومركلّوس برز هنا. والعموديّون استمرّوا حتّى القرن الثّالث عشر.

   الرّهبان والنّساك، ومن ثمّ الأديرة والقلالي، ملأوا البلاد. نسبة المتوحّدين لا نعرفها تمامًا، لكنّها تزيد على واحد بالمئة من السّكّان.

   ثمّ جاء الفتح العربيّ، في القرن السّابع. استمرّ وهج الرّهبانيّة في زمن الخلفاء الرّاشدين والأمويّين. في الزّمن العبّاسيّ، أخذ الوهج يضعف تدريجًا. الأديرة النّسائيّة أخذت تنطفئ، لكنّ بعضها بقي محميًّا من الأديرة الرّجليّة. من العموديّين الكبار المعروفين في زمن هرون الرّشيد القدّيس تيمثاوس الكاخشتي (القرن الثّامن الميلاديّ). في سيرة البطريرك الأنطاكيّ خريستوفورس الشّهيد (+ 967 م)، زمن سيف الدّولة الحمدانيّ، ما يشير إلى ازدهار رهبانيّ في النّواحي الأنطاكيّة. وثمّة أسماء برزت كجرجي الكبير رئيس دير مار سمعان العموديّ الحلبيّ الجبليّ، وخريطن الثّاني رئيس دير مار سمعان العجائبيّ البحريّ في جبل اللّكام العجيب، والأنبا يعيش الحبيس، والأنبا أفرام رجل الله، والأنبا إرميا رئيس دير والدة الإله المعروف بدير الجراجمة، والأنبا غريغوريوس الكبير رئيس دير والدة الإله في دفنونا. في تلك المرحلة بالذّات، في حدود القرن العاشر/الحادي عشر، كان للجيورجيّين في جبال أنطاكية سبعة وأربعون ديرًا.

   أبو الفرج الأصفهاني، الّذي عاش حوالي القرن العاشر الميلاديّ، وضع مؤلَّفـًا في الدّيارات النّصرانيّة. من أديرة الرّوم الّتي ذكر دير الرّصافة، على اسم حنينا، المعتبر من عجائب الدّنيا، حسنًا وعمارة. ودير سمعان الّذي بالقرب من غوطة دمشق، أو ربّما في جبل قاسيون، عند مدخل الشّام، حيث ربّما دُفن الخليفة الأمويّ عمر بن عبد العزيز الّذي مات مسمومًا. وهناك دير مرّان بظاهر دمشق. وغيره الكثير.

   طبعًا، هناك أديرة كان لها دور في نشر الرّهبانيّة في نواحينا كدير القدّيسة كاترينا في سيناء، الّذي كانت له عندنا أراض وقلال كما في كفتون الكورانيّة، إضافة إلى دير القدّيس سابا في فلسطين. هذا كان العديدون يذهبون ليترهّبوا فيه على مدى الأيّام.

   دير سيّدة صيدنايا عريق جدًّا، وحتّى القرن الثّامن عشر، كان فيه جناح للنّساء بالإضافة إلى دير الرّجال. زمن المماليك كان قاسيًا وزمن العثمانيّين كان صعبًا!.

 

ديرنا: دير مار يوحنـّا دوما والجوار.

   الوادي الّذي بقربنا في أعالي البترون كان عامرًا بالأديرة والمناسك والكنائس، في ما يبدو. الإشارات، إلى اليوم، واضحة. ديرنا عينه كانت تسري فيه الحياة الرّهبانيّة، بعد، في القرن الثّاني عشر. من السّادس عشر لدينا أسماء. وكذلك من الثّامن عشر إلى اليوم.

   الشّركة الرّهبانيّة الحاليّة انطلقت العام 1990. أخذنا، بعامّة، عن الرّهبانيّة المعروفة بيننا الّتي كانت فيها عناصر محلّيّة وآثوسيّة ورومانيّة. تأثّرنا، بخاصّة، بأحد قدّيسي هذا العصر، الأرشمندريت الرّوسيّ الأصل صفروني سخاروف الّذي نسك في الجبل المقدّس، ثمّ عبر بفرنسا، ووصل إلى لندن حيث أسّس شركة رهبانيّة جمعت فريقًا من الرّجال والنّساء حوله في ناحية Essex، على بعد ساعتين من لندن.

   نحن جئنا من رعيّة. تربّينا على يد أحد وجوه الرّهبنة الأنطاكيّة الحديثة، الأرشمندريت إلياس مرقص. ثمّ إثر تعرّفنا بالأب صفروني، أسّسنا، ببركة راعي الأبرشيّة الرّاهن، المتروبوليت جاورجيوس خضر، وصلاة القدّيسين، ونعمة الله، شركة رهبانيّة بديرين لا يبعدان أحدهما عن الآخر كثيرًا: دير القدّيس يوحنا المعمدان ودير القدّيس سلوان الآثوسيّ. الأوّل للأخوات والثّاني للإخوة. نحن عائلة روحيّة تسمّينا بـ”عائلة الثّالوث القدّوس”. نشأ الجيل الأوّل منّا معًا في الرّعيّة أوّلًا ومنها أتينا إلى هنا. نحن مجموعة واحدة بشقّين نتعاون وفق نظام حياة لا خلطة فيه بل شراكة. منحانا تقليديّ. نوازن الصّلاة بالعمل. لا نخدم مؤسّسة، لا مدرسة ولا ميتم ولا مأوى. اهتمامنا الحياة الدّاخليّة. نتعاطى صلاة يسوع: أيّها الرّبّ يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمنا، أو ارحمني أنا الخاطئ. نسعى إلى تعاطيها في كلّ وقت، في أثناء الخدمة الكنسيّة وخلال العمل. نستقبل الضّيوف. نهتمّ بالفقراء. نعمل بأيدينا. نكتب. نؤلّف. لنا موقع إلكترونيّ ذو طابع رهبانيّ دراسيّ ورعائيّ في آن. كثيرون يأتون إلينا أو يراسلوننا طلبًا للفائدة الرّوحيّة والاعتراف والاسترشاد. لا نغادر الدّير إلّا لقضاء بعض أشغال الدّير. للدّير استقلاله الدّاخليّ كما هو العرف في كنيستنا. نطيع راعي أبرشيّة جبل لبنان. ونسلك بحسب الشّرع الكنسيّ المرعيّ الإجراء. الباقي تفاصيل تخصّنا، لا نميل، بعامّة، إلى إعلانها، لأنّها لا تنفع الفضوليّين.

   هذه رحلة سريعة في الرّهبانيّة الأنطاكيّة الرّوحيّة، الّتي جذورها في التّاريخ والوجدان، التماسَ حياة القداسة بنعمة الثّالوث القدّوس. أعاننا الله وإيّاكم على إتمام مقاصده والشّهادة له في هذه الدّيار.

 

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

31 كانون الثاني 2016

 

 

 

 

 

ملامح الحياة الرّهبانيّة والأنطاكيّة بخاصّة إلى اليوم.