...

عيد ميلادِ إلهِنا ومخلِّصِنا يسوع المسيح!!.

 

 

   ما الميلادُ؟!…

   اليومَ تستعيدُ الحياةُ رجاءَها والأحياءُ في ختمِ الميلادِ…

   اليومَ يتفتّقُ الكونُ الكائنُ من مولوديّةِ الإلهِ الآبِ للابنِ يسوعَ المسيحِ بالرّوحِ القدس…

   اليومَ تتفجَّرُ حياةُ الرّوحِ الإلهيِّ في سرِّ مذودِ الملكِ، الطّفلِ المولودِ فيه ومنه للكونِ…

   اليومَ يصيرُ العجبُ حقيقةً إلهيّةً إنسانيَّةً، لتُبدِّدَ الظّلماتِ.

   اليومَ كلُّ الأجرامِ السّماويّةِ تتلاقى في دورانِها حولَ ذاتِها، لتهدأَ في الرّوحِ الإلهيِّ خالقِها، فتعيدَ الأنماطَ إلى سابقِ التماعاتِ نورِ ونارِ الألوهةِ السّاكنِ فيها.

   اليومَ يشرئبُّ الرّوحُ النّورُ من كلِّ أقاصي الأرضِ إلى أدانيها…

   اليومَ سُمِعَ صوتُ هديرٍ عجبٍ، فالتمعَتِ السّمواتُ ببروقٍ أضاءَتْ زوايا دهاليزِ القلبِ البشريِّ.

   اليومَ اخترقَ سيفُ النّارِ والنّورِ كلَّ ساكنٍ في الأرضِ ليقولَ: كلُّ هذا الّذي يجري هو في سرِّ القلبِ البشريِّ… في كلِّ ما يرى وما لا يُرى، ليتفتّتَ الإيمانُ وتبقى النّعمةُ…

   اليومَ يصيرُ الصّمتُ كلمةَ حياةٍ… والكلمةُ صمتُ رضى الإلهِ خالقِها…

   اليومَ التّسآلُ، ما الحدثُ الجلَلُ… من الآتي إلينا؟!…

   اليومَ كلُّ خلائقِ البرّيةِ العطشى… كلُّ الزّحّافاتِ والطّيورِ وأسماكِ البحارِ المالحةِ انتصبتْ عمودَ نارٍ ونورٍ ليدركَ كلُّ الكلِّ أنّ اليومَ، بل الآنَ، هو ميلادُ الدّينونةِ بالحبِّ والفقرِ والوداعةِ، وليعرفَ سرّيًّا في قلبِهِ أنّ الحقيقةَ صارتْ جسدَ طفلٍ مولودٍ في مذودٍ يُدفئُه لهثُ الحيواناتِ العجمِ… لأنّ الولادةَ الجديدةَ المتجدِّدةَ بالرّوحِ القدسِ عرفتْ أنّ الإلهَ الحيَّ يقربُها، لكنّ البعضَ تساءلوا وما زالوا يتساءلون: من الآتي؟!. الّذي يُضيءُ الكونَ بحضورِه في مذودِ البهائمِ؟!…

   اليومَ كلُّ الحياةِ تصرخُ كلٌّ بلهجِ لغتِها: هذا هو الطّفلُ الملكُ، المولودُ الصّغيرُ، الّذي لا قوّةَ له ولا اقتدارَ، إلّا ما أُعطاه من مريمَ أمِّ الحياةِ الجديدةِ…

   اليومَ وكلُّ أيّامِ الأرضِ صارتْ أمًّا لبكرِ الخليقةِ الجديدةِ.

   هذا هو الميلادُ الجديدُ للحياةِ المتجدِّدةِ، الّتي لا موتَ فيها ولا ولاداتٍ بحسبِ الطّبيعةِ، ولكن بحسبِ الإنسانِ الجديدِ المولودِ من رحمِ مريمَ والدةِ الإلهِ ومنه هو، تاليًا، إذ يعانقُ البشريّةَ بملئِها، بحسِّ روحِها النّورانيّةِ البكرِ البتوليّةِ…

   وصارَ صمتٌ… غرقَ شعاعُ اللّيلِ ونواويسُه في أيدي العذارى عروساتِ المسيحِ وبين الأخرياتِ المتسربلات مجتمعَ التّفهِ في هذه الحياةِ.

   وصارَ صمتٌ!!. أيضًا وأيضًا!!.

   لماذا أتانا ربُّنا طفلاً، فقيرًا مولودًا في مذودٍ، لا في قصورِ الملوكِ قرابةِ الهيكل؟!…

   لماذا أتانا هكذا؟!… ماذا يبتغي منّا؟!…. أن نبقى فقراءَ مثلَهُ؟!. ماذا نطلبُ؟!… لا شيء؟!… إذًا… من هو؟!…

   وتنزّلَ الصّمتُ على المسكونةِ، الّذي من لدنِ الآبِ…

   ودوّى صوتُ التّسآلٍ: من يعرفُ الطّريقَ إليه؟!… إلى ذاكَ المولودِ العجبِ؛ فليذهبْ إليه ويحيا عمرَه منه ومعه… أمّا الّذي يقفُ محتارًا في التّسآلِ… فيسقطُ من قلبِ الإلهِ…

   من يعرفُ النّورَ ليحياه، إلاّ أبناءُ النّورِ؟!. هؤلاء ينظرون الصّبحَ يعبرُ جسورَ العمرِ في خفقةٍ، في ركضةٍ أمام الضّوءِ فلا تعثرَ بحجرٍ أرجلُهم… لا يسائلون، كيف الطّريقُ أو إلى أين؟!.

   أولئكَ عرفوا الحياةَ، ملءَ الحياةِ الدّنيا، الّتي فيها الحبُّ، مخبوءًا لا يُعطى إلاّ بأغلى الأثمان… على الصّليبِ… والسّيّدُ الّذي يُدفعُ عنهم هو “بليعالَ”… لذا كَثُرَ الموتُ والفشلُ والخرابُ، وضجيجُ الإثمِ لم يتوقّفْ، لأنّه لا جوابَ للطّالبين من بليعالَ المشورةَ… وماتوا!!.

   “ها إنّ العذراءَ تحبلُ وتلدُ ابنًا ويُدعى “عمّانوئيلَ” الّذي تفسيرُهُ… الله معنا!!”…

   وأتى الرّوحُ القدسُ بالمجوسِ الثّلاثةِ، دالّهُم النّجمُ على الصّبيِّ الإلهيِّ… ورأوه ففرحوا فرحًا عظيمًا… وكان الطّفلُ مسجّى في مذودِ البقرِ يستدفئُ بقشِّ ولهاثِ الحيواناتِ… وكانت أمُّه مريمُ تحرسُهُ، فخرّوا ساجدين له…

   وفي تفتّحِ الكنوزِ لتقدَّمَ للملكِ… كان الملكُ طفلاً رضيعًا لا حولَ له ولا قوّةَ، لكنّهم قدّموا له ما أُعطوه من الله الآبِ…

   الّذهبَ … والّلبانَ… والمرَّ…

   كلُّ حياةِ الطفلِ الملكِ المولودِ اليومَ، كانت معروفةً من لدنِ الآبِ بالرّوحِ القدسِ الحالِ ليتمِّمَ أَحمالَ الملكِ…

   لم يلبسِ الرّبُّ يسوعُ الملكُ، أقنومُ الثّالوثِ القدّوسِ الثّاني، الذّهبَ، بل طيّبَتْهُ النّسوةُ، أمّهاتُ الصّبيِّ، بدموعِهنَّ ووقفنَ منتظراتٍ: أين دفنوا سيّدي؟!…

   اليومَ كلُّ طفلٍ مولودٍ من الأحشاءِ البريئةِ من الدّنسِ، “اسمُه يسوع”!!…

   اليومَ كلُّ فتاةٍ عذراءَ نقيّةٍ، طالبةٍ ختنَها وسيّدَ حياتِها، تبكي منتظرةً… “أين أنتَ يا سيّدي ربّي وإلهي؟!”… وقائلةً: “يا ربّي أنا منتظرتك حتّى أُولِدَ الطّفلَ البهيَّ جمالُه من حبِّكَ… والطّفلُ هو أنتَ يا ربّي، سيّدي وملكي، فأصيرُ أنا أمُّكَ عذراءَ من عذريّةِ مريمَ البتولِ أمِّ الإلهِ، وأنتَ تبقى ربّي وحبَّ حياتي، لتُعتقَني من روحِ البطالةِ والفضولِ والكلامِ البطّالِ وحبِّ الرّئاسةِ لتجعلَني كأحدِ أجرائِكَ… تلميذةً لكَ”…

   أُسائلُكَ سيّدي… إلى أين نذهبُ؟!. فيجيبَنا الرّوحُ… كلامُ الحياةِ الأبديّةِ عندكَ… بهذا نحيا ونستمرُّ في حبِّكَ…

   من اليومِ ومن جيلٍ إلى جيلٍ… تولدُ يا مسيحي، نارًا من نورِ الإلهِ وحياةٍ تتجدّدُ من الميلادِ لتعودَ إليه…

   اليومَ الحبُّ البتوليُّ يولدُ للبشريّةِ، إلهُ الوعدِ… مسيحُ الحياة… سيّدُ المسكونةِ…

   اليومَ تعرّفنا يا ربَّنا، ويا إلهَنا، أنّنا منكَ وُلدْنا في مذودِ حبِّكَ لنا بوالدةِ الإلهِ، أمِّنا…

   اليومَ نصيرُ نحن المؤمنين بكَ خاصتَكَ مولودين معكَ من مذودِكَ… إلى وعدِ حبِّكَ وتجلّيكَ وموتِكَ على صليبِ قيامتِكَ…

   اليومَ نصيرُكَ أنتَ الّذي ولدْتَنا بالرّوحِ والحقِّ… مسحاءَ لكَ، منكَ وبكَ لغلبةِ موتِنا بحبِّكَ…

آمين.

 

الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان

عن “تأمّلات ي الإنجيل”، 25 كانون الأول 2016

 

 

 

 

 

عيد ميلادِ إلهِنا ومخلِّصِنا
يسوع المسيح!!.