...

طبيعة الكنيسة من وجهة أرثوذكسية

 

 

 

 

تعريب المتروبوليت الياس (معوض) راعي أبرشية حلب
مجلة النور، العدد 1و2، لعام 1959

إن الكنيسة الأرثوذكسية ولاهوتها بعكس العمل الغربي تتحاشى التحديدات الدقيقة حتى في الأمور الهامة من التعليم العقائدي، وبين الأمور التي لم تحدد رسمياً على الأقل طبيعة الكنيسة، ومع أن الكثيرين من اللاهوتيين اليونانيين والسلافيين البارزين حاولوا مراراً وتكراراً أن يحددوا هذه النقطة في التعليم اللاهوتي، إلا أن محاولاتهم كانت على الغالب غير موفقة، وقل ذلك في وصف طبيعة الكنيسة، وفيما يلي سنحاول جاهدين أن نضع مخططاً للبحث عن طبيعة الكنيسة من ناحية أرثوذكسية عقائدية، تاركين جانباً كل النظريات اللاهوتية الحديثة غير المقبولة عامة في اللاهوت الأرثوذكسي.
إن تحديد معنى طبيعة الكنيسة كما قلنا صعب جداً، وكنقطة انطلاق لسياق البحث في هذا الموضوع، أستطيع أن أقول بأن الكنيسة هي البناء الإلهي المؤلف من الذين قبلوا ويقبلون بالمعمودية الإيمان بالمسيح، ويحافظون عليه أرثوذكسياً، لذلك يجب أن نشدد على:
1) الطبيعة الإلهية في تأسيس الكنيسة.
2) عدد المؤمنين.
3) غرض الإيمان.
4) تاريخ قبول الإيمان.
5) السبل لتبني الإيمان.
6) طريقة المحافظة عليه.
من هذه النقاط تنبع الحقائق الآتية التي لا تقبل الشك:
1) الكنيسة هي مؤسسة إلهية.
2) تتألف من رجال أحياء لذلك لها طابع بشري.
3) هي واحدة ويجب أن يكون كذلك.
4) أساس بناء الكنيسة وتأسيسها هو الإيمان بالمسيح العامل بالمحبة.
الكنيسة مؤسسة إلهية.
1) الكنيسة مؤسسة إلهية: إن سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح القائد الأزلي الوحيد ورأس الكنيسة، أسس الكنيسة وصار مع أعضائها المرتبطين برباط الإيمان الحقيقي الحي جسداً سرياً واحداً كلياً (كولوسي 1: 18- 24)، وقد كشف المسيح حقيقته الحية المخلصة في الكنيسة وأكدها وختمها أزلياً بموته وقيامته، وكذلك بالروح القدس العامل لإرشاد الكنيسة، كل هذه مضافة إلى هدف الكنيسة الأخير، وهو خلاص الناس بقبول وتبني الحقيقة المكشوفة التي تعطي إلى الكنيسة طابعها الروحي الإلهي.
الكنيسة في الوقت نفسه بشرية.
2) إن الكنيسة كبناء إلهي هي في الوقت نفسه بشرية، لا لأنها تتألف من كل أجناس البشر (متى 13: 47- 50)، بل لأنها تسعى لتحقيق أهدافها بين البشر بطريقة بشرية وبواسطة البشر، وإن كان البشر مرشدين بالروح القدس، فالمسيح لم يُعرّف إلى البشر وينشر حقيقته بطريقة عجائبية، بل هو والرجال الذين اختارهم للعمل في تحقيق رسالته خدموا هذه الرسالة بوسائل بشرية (بالكلام والأسرار وإن كانت هذه كلها ذات طابع روحي صرف) مدركة بالطبيعة البشرية وفي متناول الجميع، فطبيعة الكنيسة إذاً هي إلهية وبشرية في الوقت ذاته وتتجاوب مع الطبيعتين اللتين لمؤسسها، إذ هو في الوقت ذاته إله حقيقي وإنسان حقيقي وبخلقته لطبيعة جسد الكنيسة المزدوج صارت ممكنة متابعة العمل الخلاصي في هذا العالم.
الكنيسة واحدة مؤسسها واحد هو المسيح.
3) إن وحدة الكنيسة تنبع بصورة طبيعية من طبيعة الكنيسة المزدوجة ومن هدف رسالتها الأخيرة، فالكنيسة واحدة ويجب أن تكون واحدة ومؤسسها واحد وهو المسيح، وواحدة هي الحقيقة المكشوفة في الكنيسة والرباط الذي يربط أعضاء جسد الكنيسة واحد هو، وكذلك الإيمان ومحبة بعضنا لبعض، وواحد هو هدف الكنيسة الأخير الذي يستهدف خلاص كل فرد في المجتمع البشري، ويتضح من كل ذلك أن جسداً له هذا المصدر والمنشأ ويرمي إلى مثل هذا الهدف وله هذا الجوهر لا يمكن إلا وأن يكون واحداً، وإلى هذا الجسد الواحد أعطى الله السلطة العليا العاملة بواسطة البشر، والموكل إليهم أمر الاهتمام والمحافظة والاستمرار في تحقيق رسالته في هذا العالم.
لا خلاص خارج الكنيسة.
4) إن الكنيسة التي يثبتها المسيح ويديرها، والمؤسسة على إيمان الرسل والمنظمة من قبلهم، بواسطة الحقيقة الصرف التي كشفت فيها فقط وبإرشاد الروح القدس، هي الأداة الوحيدة التي أرادها الله والتي بها ينشد ويتحقق خلاص الإنسان الروحي، وبالنتيجة لا خلاص خارج الكنيسة.
وبالرغم مما ذكر آنفاً عن وحدانية الكنيسة، فقد وجدت منذ البداية ولأسباب تاريخية كنائس مسيحية لا تزال باقية إلى الآن، وتوجد الآن كنائس وتنشأ دون أن تتقيد بطبيعة أو شكل، والمهم الغريب أن كل واحدة تدعي لنفسها حق الواحدية.
هناك أربع نظريات فيما يتعلق بمنزلة وعلاقة هذه الكنائس بالكنيسة الواحدة الأساسية:
1) إن الكنيسة الواحدة قد ضاعت مع مرور الزمن وتلاشت بين الكنائس المختلفة التي وجدت فيما بعد.
2) إن الكنيسة الواحدة قد انقسمت إلى فروع وأقسام، وكل قسم يتجاوب مع كل كنيسة من الكنائس القائمة المتباعدة بعضها عن بعض، وقد حافظ كل قسم على شيء جوهري من الكنيسة الواحدة التي انشق عنها، فتقارب بسيط إذاً واتحاد هذه الأقسام يعيد تلقائياً إلى الكنيسة الواحدة واحديتها.
3) إن هذه الكنيسة الواحدة هي في كل كنيسة من الكنائس المنفصلة عن بعضها البعض، إذا أخذت كل كنيسة على حدة، والكنائس هذه وإن كانت قد انشقت عن الكنيسة الواحدة الأساسية، فهي لا تزال محتفظة بالمعرفات والعناصر الجوهرية للكنيسة الواحدة.
4) من كل الكنائس الموجودة واحدة لها حق الادعاء بأنها الكنيسة الواحدة، وهي التي حافظت على الحقيقة الواحدة التي كشفها الرب بواسطة الرسل دونما تغيير أو تشويه بالرغم من كل التطورات التاريخية الحديثة، إن النظريات الثلاث الأولى مع بعض التعديلات يمثلها اللاهوت الكنسي البروتستانتي، أما النظرية الرابعة فهي نظرية الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية مع الاحتفاظ بالتفكير الخاص لكل منهما، وسيقتصر البحث على النظرية الرابعة من الناحية الأرثوذكسية.
الكنيسة لا يمكن أن تضمحل أو تنقسم أو تتجزأ.
الكنيسة الأرثوذكسية تؤمن بأن الكنيسة كبناء إلهي وكخلقة إلهية لا يمكن أن تضمحل أو أن تنقسم أو أن تتجزأ، وليس لأحد في هذا العالم ممن يرتكزون على سلطتهم الخاصة أن يحدث أي تغيير أو تبديل في الكنيسة الواحدة ( حتى ولو كانت هذه السلطة مرتكزة على تفسيرات معينة للكتاب المقدس، تفسيرات تحافظ أو تطرح أو تغير أوجه الحقيقة المكشوفة وفقاً للمعنى )، فالكنيسة الواحدة لا تزال موجودة إلى الآن، غير ملموسة وبقيت غير منقسمة كاملة غير متغيرة ولا مشوهة، فالذين صدف أن فقدوا نظريتها ينهمكون طبعاً بالتفتيش عنها ليعثروا عليها (ألعلكم لا تجدونها إذا فتشتم عنها: إنها موجودة في داخل كل واحد منكم )، ومحاولتهم تحت شكل إعادة صنعها واستقرارها محاولة فاشلة، لأن الكنيسة موجودة ولا حاجة إلى إعادة استقرارها، ومن الطبيعي أن يكون هناك أعضاء انفصلوا من الشركة الكنسية ويستصعبون أن يعودوا إليها، خصوصاً بعد قبولهم نظريات ومبادئ مخالفة لمبادئها، ولكن واحدية الكنيسة مطلقة وكل ليونة تتعلق بهذا الموضوع (بسبب واحدية الحقيقة) مرفوضة إطلاقاً.
أقوال يسوع في تأسيس الكنيسة.
إن السيد أسس الكنيسة وأعطاها شكلاً داخلياً حيوياً بكلماته التأسيسية الآتية: حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم (متى 18: 20)، أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها (متى 16: 18)، اذهبوا وتلمذوا كل الأمم معمدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم كل ما أوصيتكم به (متى 18: 19)، ولقد صليت من أجلك لئلا يذهب إيمانك فأنت إذا عدت فثبت إخوتك (لوقا 22: 32)، قال يسوع لسمعان بطرس يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء ارع خرافي (يوحنا 21: 15- 18)،
فيما يتعلق بالقول الأول التأسيسي (متى 18: 20) لا يمكن أن يكون هناك أي شك في أن السيد المسيح:
1) أسس كنيسته في مكان (حيثما).
2) إن للكنيسة أعضاء متساوين بعضهم لبعض (اثنان أو ثلاثة).
3) إن هؤلاء الأعضاء مرتبطون بعضهم ببعض بمبادئ معينة (باسمي).
4) إن حق الرباط موجود تحت نظام وقيادة صارمة (فأنا بينهم).
كل هذا بالنسبة للكلام التأسيسي الآنف الذكر يدل بوضوح على تأسيس الكنيسة المنظورة التي ابتدأت بالأشخاص (الكنيسة التي في البيت)، وكثرت بالفرق المحلية (الكنيسة التي في كورنثوس)، وانتشرت في كل العالم (كنيسة الله)، وامتدت إلى الحياة الأخرى حياة الأجيال المستقبلة، إلى الذين رقدوا على رجاء الرب وانفصلوا من الحياة الحاضرة (فيلبي 1: ش19و10)، فالكنيسة المنظورة تشكل نقطة انطلاق للواقع الكنسي عامة، أما الكنيسة غير المنظورة فهي غير مدركة بدون قسمها المنظور، والكنيسة المنظورة فضلاً عن جوهرها وأهدافها وامتدادها في العالم الروحي هي غرض الإدراك والخبرة البشرية.
الطابع الروحي للكنيسة المنظورة.
لاشك أن الكنيسة المنظورة المرتكزة فقط على الإيمان المغذاة بالمحبة وبإرشاد الروح القدس لها طابعها الروحي، وهذان العاملان يشكلان طبيعتها وجوهرها وكيانها، وفي هذا المعنى بالذات تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية من طبيعة الكنيسة بتعليمها وتعابيرها الطقسية مثلاً “لنحب بعضنا بعضاً لكي بعزم متفق نعترف”، “بعد اتحادنا في الإيمان وشركة الروح القدس لنودع ذواتنا وبعضنا بعضاً وكل حياتنا للمسيح الإله”، وبالإضافة إلى ذلك فالقسم المنظور يعبر عنه بالنظام الكنسي والإدارة التي بها تكون ممكنة المحافظة عليها على أساس المبادئ المبحوثة آنفاً، فالسيد المسيح اختار تلاميذه الإثني عشر وأعطاهم سلطاناً ليعلموا بالكلام في الكنيسة ويقوموا بخدمة الأسرار ويتمموا هدفه وهدف الكنيسة: (متى 4: 12- 22)، (مرقس 3: 13- 15)، (لوقا 6: 12- 16)، (يو 1: 35- 51)، (أعمال 1: 14- 26)، و (20: 17- 35)، ويتضح من هذا أن النظام في الكنيسة المنظورة المحافظ عليها بواسطة الخدمات الموكلة خصيصاً إلى أناس أمناء، بمعنى الاستمرار الدائم لجسدها الذي يديرها، هو ذو معنى أساسي لوجود الكنيسة بالذات (أعمال 1: 15: 6 )، وتطور الإدارة وشكلها هي ذات قيمة ثانوية، مادامت المبادئ المبحوثة آنفاً فيما يتعلق بمبدأ الإدارة لا تقبل الشك، فالمحاولات التي حصلت فيما بعد من قبل المؤسسات الكنسية للاستعاضة عن الكنيسة المبنية والمحفوظة على هذه الصورة، وعن النظام الكنسي بكنيسة خارج السلطة الكنسية النقية، لا يمكن أن يعترف بها، لأنها لا تملك بحد ذاتها أية سلطة وبالنتيجة حقاً في الوجود، فالملكوت السماوي حتى في ظهوره في هذا العالم لا يوجد (هنا أو هناك) (لوقا 17: 21)، بل حيث وضعه السيد المسيح وتلاميذه، والإمكانية الوحيدة للسير الاشتراك به، هو الالتصاق في الجسد الوحيد الذي أوكل إليه المسيح تحقيق هذا الملكوت على الأرض.
بساطة الإيمان.
كثيراً ما تحتقر الحكمة اللاهوتية بساطة الإيمان وتعتبرها غير جديرة بالبحث عن المسماة Una Sancta إذا كانت غير مرتكزة على محاكمات عقلية عميقة وجدل منطقي طويل، ومع ذلك فإني واثق بأن كل واحد منكم سيوافق على أن عملنا هذا لا يقوم على البحث اللاهوتي حول نظرية Una Sancta بقدر ما يقوم على البحث عن المعنى الحقيقي للديانة الحقيقية الذي تمثله هذه، والتي كثيراً ما تضيع في المحاورات والجدل اللاهوتي والنقد (يهوديت 8: 12- 14)، فالسيد المسيح لم يأت لتأسيس علم اللاهوت الذي نعتبره نحن خطأ بأنه الألف والياء بل بالعكس، فقد أظهر إيمانه وفرض قبوله بكل بساطة ونقاوة قلب (مرقس 9: 23-24)، (يوحنا 1: 47- 51)، (أعمال 2: 46- 47)، فإذا لم نرجع إلى هذه البساطة من الإيمان، لا نستطيع بالحكمة اللاهوتية وحدها أن نصل إلى الكشف عن الكنيسة الواحـدة المقتبس عنها لاهـوتياً والتي كما قلت سابقاً – ليست ببعيدة عن كل واحد منا – فهي غير منظورة وستبقى، والسبب بسيط لأننا نبحث عقلياً نظريات جدلية سكولستيكية حولها وحول وجودها.
الرعية الرسولية.
أنستطيع أن ننكر بأن الرعية الرسولية لم تكن الرعية المسيحية الوحيدة في ذلك العصر، وأن الرسل أنفسهم ما كانوا يعترفون بالرعايا الأخرى المسماة برعايا مسيحية لأنها لم تكن مرتبطة بهم، وكانوا يعتبرونها رعايا مؤلفة من أخوة كذبة، والرسل أنفسهم ما كانوا يتحملون وجود كنائس عديدة، والهراطقة أنفسهم ما كانوا يجسرون أن يضعوا مركز الرسل موضع الشك، حتى ولو كانوا يفسرون وينظرون إلى هذا المركز وفقاً لعقليتهم في الحقيقة إنها لفكرة غريبة.
الكنيسة بعد العصر الرسولي.
لقد استمرت الأمور في تطورها وفقاً للخطوط الآنفة الذكر حتى في العصر الذي تلا العصر الرسولي، فالكنيسة الجامعة السيدية التي حافظت على الإيمان سالماً أنكرت ورفضت الكنائس الهرطوقية المختلفة ومنعتها من الاشتراك معها، وقد أظهرت الكنيسة الجامعة بالرغم من كل ذلك تسامحاً مع الكنائس الهرطوقية محاولة بالتبرير أن تصالحها، ولكن ظروفاً سياسية عملت على بقاء الهرطقة وفروقاتها العقائدية حتى الآن، وخلاصة القول أن وجود وجهات نظر متعددة للإيمان المسيحي الواحد أي وجود كنائس عديدة مختلفة لم يكن مقبولاً ومفهوماً، ومع ذلك فالكنيسة بالرغم من وجود كنائس عديدة خارج الشركة تبقى كنيسة واحدة والاتحاد بها ( لا بمعنى التشابه الخارجي بل بمعنى الرتبة القديمة ) هو الطريقة الوحيدة لوحدتها، والنظرية القائلة بأن الكنائس المختلفة هي أعضاء وفروع للكنيسة الواحدة غير مقبولة وغير معقولة، مادامت هذه الكنائس قد انفصلت عن الكنيسة الواحدة لأسباب تتعلق بفروقات جوهرية أساسية ومفهومات متعددة ووجهات نظر مختلفة فيما يتعلق بجوهر وطبيعة الكنيسة الواحدة، إني ألمس الصعوبات الموجودة التي تحول دون تحقيق هذه الوحدة في أيامنا، أسباب تاريخية ولاهوتية لا تساعد على تحقيق الوحدة اللازمة والضرورية أبداً لا بل تجعلها غير ممكنة تقريباً، فالرجوع إلى بساطة الإيمان كما أردفنا يقودنا أو ربما قادنا إلى حل هذه المشكلة الكبيرة.
الكنيسة الأرثوذكسية استمرار الكنيسة الرسولية.
إن وجود الكنيسة الواحدة بيننا الآن وبالرغم من وجود كنائس عديدة، يقودنا بالطبع إلى ما تطالب به الكنيسة الأرثوذكسية فيما يتعلق بحقها القاطع بأنها الكنيسة الواحدة غير المنقسمة، ووفقاً لهذا الحق فالكنيسة غير المنقسمة كانت استمراراً للكنيسة الرسولية حتى القرن التاسع على الأقل.
والخلافات والشقاقات بين الكنيسة الشرقية والغربية قادت إلى تشكيل الكنيسة الكاثوليكية لكنيسة جديدة بالنظر لتجديداتها التي رفضتها الكنيسة الأرثوذكسية، ولهذا السبب بقيت الأخيرة حيث كانت سابقاً، والقسم الذي انفصل عنها شكل كنيسة جديدة منفصلة، والانفصال الذي حصل بسبب النهضة عن الكنيسة هذه كوّن كنائس جديدة وقادنا إلى الحالة الموجودة الآن في العالم المسيحي، وما جد من الكنائس علاوة على الكنائس الجديدة التي تشكلت أهملت عامة هذا القسم الباقي من الكنيسة غير المنقسمة وتعامت عن وجوده الشيء الذي حدا الكنيسة الكاثوليكية فاندفعت أكثر فأكثر في تجديداتها، فالتسلسل الدائم للكنيسة الأرثوذكسية من الكنيسة الواحدة غير المنقسمة والذي يعطي للكنيسة الأرثوذكسية الحق في أن تكون الكنيسة الواحدة يتضح مما يأتي:
1) إن السيد يسوع المسيح لا يزال كما كان في الكنيسة القديمة الرأس الوحيد ورئيس الكنيسة، والحقيقة التي كشفها في الكنيسة هي الأساس الوحيد للإيمان المختص.
2) الإيمان بالحقيقة المكشوفة والمحبة كتعبير للإيمان، يشكلان القطبين للحياة الكنسية المسيحية النقية.
3) إن النظام الذي أعطي للكنيسة بيسوع المسيح لا يزال كما كان عليه في الكنيسة الأولى دون أن يمس أو يتغير في شكله، والجسد الذي يدير للكنيسة بالواجب مع الجسد المدار بالحق ( بسبب الإيمان المقبول ) هما جماعة المؤمنين في الكنيسة.
4) إن سلطة الكنيسة ترتكز على هذه الجماعة كسلطة مؤسسة على الحقيقة المكشوفة كما حفظت من قبل الجسد المدير، وكما يعبر عنها بالتفسير الصحيح للتقليد الشريف وكما تظهر من وجدان الكنيسة العام، وجدان الإكليروس والشعب، وهذا ما يطلق عليه اللاهوت الروسي الأرثوذكسي كلمة SOBORNOST تعبير غير معروف تماماً في اللغة اليونانية.
5) إن القسم الجوهري في الحياة الكنسية لا يزال في الكنيسة الآن كما كان في الكنيسة القديمة، وهو العبادة التي تقود المؤمن إلى اتحاد روحي سري مع الله بالتبني الشخصي للفرح الخلاصي الحاصل بإعطاء ” الرحمة الكبرى ” التي يعبر عنها السيد المسيح تعبيراً كاملاً بتجسده أي بصلبه وقيامته وصعوده، فالقيامة ( فصحاً صليباً قيامة) هي التعريف الجوهري للكنيسة الأرثوذكسية كما كان للكنيسة في زمن الرسل وفي العصر الذي تلى.
6) إن الكنيسة هي المظهر الرسمي للإيمان الكنسي الحي فالمحبة المسيحية والمسرة تعتبران كقانون للحياة الاجتماعية في المجتمع الكنسي مادامت تشكلات أمراً من أوامر السيد المسيح الأساسية.
7) إن علاقة الكنيسة بالدولة تنبع من البند السادس الأخير وفقاً لمركز الكنيسة الأرثوذكسية التقليدي، فالكنيسة لا ترمي إلا تحضير المجتمع بواسطة مسيحيين حقيقيين هم بالضرورة المختارون بين المواطنين، ويرفضون كل تدخل في قضايا بشرية ولا يتهربون عند الضرورة حتى من الاستشهاد في حالات ضغط أو تدخل من قبل السلطة المدنية في قضايا كنسية صرفة، فالكنيسة الأرثوذكسية فيما يتعلق بهذه الناحية لها من ماضيها وحاضرها خبرة غنية أكثر من أية خبرة لأية كنيسة مسيحية.
8) علاوة على كل ذلك فوجود الروح الجامعي القديم والحفاظ عليه لا يظهر في اعتراف كبريائي وغطرسي، بل بتواضع مسيحي حقيقي ويظهر هذا من الحادث الذي يستحق أن نشير إليه.
هل ممكن عقد مجمع مسكوني ثامن؟
إن الكنيسة الأرثوذكسية كما هو معروف تقبل بالمجامع المسكونية السبعة، والسلطة العليا في الإدارة لا تزال كما كانت في الكنيسة القديمة للمجامع المسكونية (بسبب الروح الديموقراطي المحافظ عليه) فهناك قضايا كنسية مختلفة، منها ما هو هام جداً للحياة الكنسية ولا يمكن حلها إلا بقرار من مجمع مسكوني وتطلب دعوة هذا المجمع، وفي حال دعوته يكون مجمعاً مسكونياً ثامناً، ولكن دعوة هذا المجمع المرغوب فيها جداً لا يمكن أن تتحقق في حال من الأحوال في المستقبل القريب على الأقل، وكثيرون ممن هم خارج الكنيسة الأرثوذكسية ينسبون هذا إلى الانحطاط القائم في الكنيسة الأرثوذكسية، ولكن هذا الانحطاط لا يمكن أن يعتبر إطلاقاً ولا يفسر تفسيراً مرضياً إهمال الدعوة إلى عقد مجمع مسكوني، لأن سبب عدم الدعوة إلى عقد مجمع مسكوني أعمق بكثير مما يتصوره من هم خارج الكنيسة، فالحفاظ على الشعور الكامل بروح الكنيسة الحقيقية الجامعة القديمة النقية هو السبب الجوهري في عدم الدعوة إلى عقد مجمع مسكوني.
دور الأرثوذكسية في إرجاع الكنائس المنفصلة.
بعد الشقاق الكبير والتطورات الكنسية في القرن السادس عشر والسابع عشر وفيما بعد، كان للكنيسة الأرثوذكسية ولا تزال فكرة واضحة أن القسم الأكبر من المسيحية بسبب الكثلكة من ناحية والبروتستنتية بصورها المختلفة من ناحية أخرى، لم يعد تابعاً للكنيسة الواحدة الجامعة الموجودة (ولا علاقة إذا كانت قد تجزأت هذه الكنيسة)، إن المقاطعات الكبرى من الكنيسة القديمة التي تسيطر فيها الكنيسة الغربية والكنائس البروتستنتية لم تعد واقعة تحت إشراف كنسي موحد لأنها قد انشقت تماماً عن الكنيسة الأم، لاشك أنه لا يوجد قرار حول انفصال هذه الأقسام عن الكنيسة الواحدة، ولا قيمة للقرارات الصادرة من قبل الكنيسة الكاثوليكية مادامت هذه الكنيسة قد انشقت عن الكنيسة الأم بسبب قرارات وتجديدات تتنافى مع الأسس الكتابية للكنيسة الواحدة، وهذه الأقسام التي انشقت عن بعضها البعض ليست من الكنيسة الواحدة غير المنقسمة حتى ولو لم يكن هناك قرار بذلك، أما الكنيسة الأرثوذكسية فقد بقيت وتبقى القسم الوحيد الذي لم يتغير من الكنيسة غير المنقسمة، إن انفصال الكنيسة الكاثوليكية كان سبباً في تغيرها بالذات وليس في القسم غير المتغير في الكنيسة الأرثوذكسية الكنيسة غير المنقسمة. فالتطورات الأخيرة الحديثة في الغرب بسبب ثورة الإصلاح لم تغير شيئاً فيها وفي موقفها، والكنائس التي أنشئت مجدداً بواسطة المنشقين نسيت وجودها، والتغير الذي حصل في العالم الغربي بواسطة الكنيسة الكاثوليكية كان عميقاً إلى درجة جعلت الأقسام التي انشقت عنها وشملت كنائس بروتستنتية جديدة تهمل تماماً أمر التفكير بالتفتيش عن الكنيسة الأساسية غير المنقسمة، وأن تفكر بالعودة إلى الكنيسة الأرثوذكسية القسم الذي يؤلف الكنيسة الواحدة النقية والذي بقي بعيداً عن تجديدات الكنيسة الغربية وتشويه الحقائق الكتابية الذي حاربته الكنيسة الأرثوذكسية، لذلك بقيت الكنيسة الأرثوذكسية منسية معزولة في حالتها الصراعية التي وجدت فيها لأسباب خارجية، لم تمكنها لفقدان الوسائل من التدخل بصورة فعالة لتقود عالم المحاجين وتعيدهم إلى الوراء، إلى القسم الذي لم يُمس من الكنيسة الواحدة غير المنقسمة – إلى الكنيسة الأرثوذكسية.
دور الأرثوذكسية في الدعوة لمجمع ثامن.
على ضوء ما عرضناه آنفاً وفيما يتعلق الآن بقضية المجامع المسكونية فالكنيسة الأرثوذكسية كان لها، ولها الآن الثقة، بأن المجامع المسكونية السبعة ليست بمجامع للكنيسة الأرثوذكسية فحسب بل هي مجامع للكنيسة الواحدة غير المنقسمة، فالدعوة لعقد المجمع المسكوني الثامن يجب أن يكون من قبل الكنيسة غير المنقسمة لكي يعترف به مجمع مسكوني ثامن من قبل الكنيسة غير المنقسمة، لهذا السبب بالذات لم يدع المجمع المسكوني الثامن للانعقاد ولن يدعى، لأن الكنيسة الأرثوذكسية التي حافظت على الروح الجامعي قوياً دون أن يُمس الشعور الجامعي النقي، لن تحاول دعوة المجمع المسكوني الثامن لأنها لا ترغب في أن يكون لها مجمع مسكوني خاص بها بالمعنى الاعترافي الحديث، علاوة على المجامع المسكونية السبعة، لأنه من تاريخ إنشاء كنائس جديدة أخرى أصبحت الكنيسة الأرثوذكسية عددياً بصورة طبيعية وفي الواقع كنيسة من الكنائس الموجودة بالرغم منها وبالرغم من جوهرها وطبيعتها وحقوقها، فالكنيسة الأرثوذكسية كما ورد سابقاً تعترف جيداً بأن القسم الأكبر من المسيحيين هو خارج عما بقي من الكنيسة الواحدة غير المنقسمة والذي يشكل الكنيسة بالذات، فعندما تحل مشكلة الانفصال عن طريق عودة الكنائس المنفصلة إلى الكنيسة الأرثوذكسية، عند ذلك تظهر ضرورة دعوة مجمع مسكوني ثامن تشترك فيه كل الكنائس المسيحية على أساس المساواة بالحقوق، ويصبح هذا المجمع المسكوني الثامن مجمعاً مسكونياً للكنيسة الواحدة غير المنقسمة، لذلك فالمجامع الكبرى التي انعقدت في القسطنطينية سنة 861 و 879 أيام كانت الخلافات على أشدها بين الكنيسة الغربية والشرقية لم تعترف بها الكنيسة الأرثوذكسية كمجامع مسكونية، مع أنها تقف إلى جانب الكنيسة الأرثوذكسية، بعكس الكنيسة الكاثوليكية التي اعتبرت لسبب بسيط المجامع المضادة لهذين المجمعين مسكونية وذلك لأنها تلعن فوتيوس وكيرولاريوس.
الاعتراف بشرعية الكنائس الحديثة.
إن الكنيسة الأرثوذكسية تشعر بالصعوبات القائمة التي تمنع المجمع المسكوني الثامن من الانعقاد بالنسبة للكنائس المسيحية الأخرى الموجودة خارج الكنيسة الواحدة غير المنقسمة، وتفضل التأجيل اللامحدود على دعوة المجمع الذي سيكون بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية ذا طابع اعترافي حديث، وما يجعل الدعوة إلى مجمع مسكوني ثامن صعباً هو مشكلة إمكانيات الكنائس التي هي خارج الكنيسة الأرثوذكسية من الاشتراك فيه في حالتهم الحاضرة، والصعوبة لا تظهر من الناحية الأرثوذكسية معقدة كما هي في الكنيسة الكاثوليكية، فالكنيسة الغربية أبدت رأيها واعتبرت الكنائس البروتستنتية هرطوقية، أما الكنيسة الأرثوذكسية فلم تبد رأيها رسمياً وذلك لسبب بسيط وهو أن الكنائس هذه قد ظهرت بعد المجمع المسكوني السابع، وخرجت من صلب الكنيسة الغربية، ولم تبد الكنيسة الأرثوذكسية رأيها في طبيعة وحالة هذه الكنائس، خصوصاً والكنائس قد تشكلت بسبب انقسامات جرت في أزمان متعددة ولم يعقد مجمع مسكوني بعد ليعطي قراراً بشأنها، ومهما كان فحَّـل الكنيسة الأرثوذكسية لطبيعة ومركز هذه الكنائس التي هي خارج الكنيسة الأرثوذكسية سيكون نهائياً، فيما إذا كان لها الحق أن تصبح كما هي أو كما يجب أن تكون من أعضاء الكنيسة الواحدة غير المنقسمة.
إني لعارف بأن الكثيرين من الأخوة الكاثوليك والمحاجين لا يرون أن هذا المركز الذي للكنيسة الأرثوذكسية، مستند إلى أساس متين، لذلك يقفون موقف الحذر فيما يتعلق بصحة ذلك، ولكن الكنيسة الأرثوذكسية التي ترتكز على أسس ومبادئ كانت ترتكز عليها الكنيسة الأساسية كما قلنا سابقاً، لا تستطيع إلا وأن تعتبر نفسها الكنيسة الباقية من الكنيسة التي لا تنقسم، وعلى هذا الأساس ترى الكنيسة الأرثوذكسية من الواجب والنافع الاشتراك في الحركة المسكونية، فشرح مركزها والاعتراف الاجماعي بمركز الكنيسة غير المنقسمة، سيقودان إلى الوحدة الحقيقية على الأساس القديم، وهذا الاتحاد بواسطة العناصر الحية في الكنائس المسيحية التي هي خارج الكنيسة غير المنقسمة سيصبح بسهولة (بعد الاتحاد) منطلقاً للتطور الجديد للكنيسة الواحدة المسيحية في المستقبل.
الاتحاد غلبة الإيمان المسيحي في العالم.
يظهر من كل هذا أن الدعوة إلى المجامع المسكونية السبعة لا تعني تقهقراً وجموداً، بل بالعكس دليلاً على وجود الضمير الإجماعي الحي في الكنيسة الأرثوذكسية التي تنتظر بصلاة صابرة وبتواضع إحياء الكنيسة الواحدة غير المنقسمة باتحاد الكنائس التي هي خارج الكنيسة الواحدة، هذا الاتحاد الذي إذا تم خصوصاً، والرغبة بإعادة الكنيسة الواحدة حارة في كل مكان لا يعني إلا غلبة الإيمان المسيحي في العالم (يوحنا الجامعة1: 5 و 4)، إني أدرك بأن غير الأرثوذكسيين لأسباب عديدة لا يستطيعون أن يدركوا وجهة نظر الكنيسة الأرثوذكسية، ولكني واثق بأن إعادة الكنيسة Una Sancta غير ممكن إذا لم تستند على الشعور الإجماعي النقي، الذي يدرك الكنيسة الواحدة كما تأسست تاريخياً من السيد المسيح، لهذا السبب لا تستطيع الكنيسة إلا أن تكون واحدة غير منقسمة من تاريخ تأسيسها إلى منتهى الدهر، إلى حين ظهور أورشليم الجديدة التي يرتبط بها المؤمنون بالمسيح. وإجمالاً لما ورد أقول أن النقاط الآتية هي أهم النقاط في التعليم حول طبيعة الكنيسة من وجهة أرثوذكسية، وهي لا تختلف عن النقاط التي كانت تؤمن بها الكنيسة الواحدة غير المنقسمة:
1) إن الكنيسة واحدة منظورة (مجندة) وفي الوقت ذاته غير منظورة (ظافرة).
2) هدف ورسالة الكنيسة واحد خلاص المؤمنين.
3) الوسائل التي بواسطتها يتحقق هذا الهدف هي كلام الله والأسرار المقدسة.
4) رأس الكنيسة وقائدها هو يسوع المسيح وسلطتها ترتكز على الحقيقة التي كشفها السيد أما الإيمان فهو الأساس الوحيد لها.
5) إن النظام الكنسي كما وضع في الكنيسة القديمة من قبل السيد يسوع لا يكفل نقاوة التعليم فحسب بل يؤمن نجاح رسالتها في العالم.
6) الإكليروس والشعب يشكلون جماعة الكنيسة والتعبير عن سلطتها وعن وجدان الكنيسة التي هي مظهر الجسد السري للمسيح.
7) الكنيسة (كواحدة) مافتئت موجودة وهذا الوجود يتنافى مع المحاولات لإعادة الكنيسة إلى ما كانت عليه.

 

بقلم: اميلكار اليفيزاتوس (أستاذ اللاهوت في جامعة أثينا)

 

 

 

 

طبيعة الكنيسة من وجهة أرثوذكسية