...

صورة كلّ إنسان كما هو على حقيقته!.

صورة كلّ إنسان كما هو على حقيقته!.

 صورة كلّ إنسان كما هو على حقيقته!. 

 

   اليوم، سأعترف بخطاياي، عنّي وعنكم، على طريقة القدماء في الكنيسة. كان اعترافهم علنيًّا!. هذه المرّة سأقول الصّدق… أنا كذّاب!. ممثّل من الطّراز الأوّل!. رحمة الله عليك، يا أبانا الياس!. كان يقول: غير صحيح أنّ الإنسان حيوان عاقل، الإنسان حيوان ممثِّل!. كلّ حياته تمثيل في تمثيل!. أعترف لدى الكاهن؟!. طبعًا، طبعًا!. هذا بعامّة، جزء لا يتجزّأ من استراتيجيّة كذبي!. صورتي عن نفسي بين النّاس أهمّ عندي من أيّ شيء آخر!. أنا عائش على صعيد الخيال!. أرسم عن نفسي صورة، كما أشتهي!. هذه أسوِّقها!. ما تراني عليه هو ما رسمتُه عن نفسي في خيالي لا ما أنا عليه، في حقيقة أمري!. لماذا أتعب لأصْدُقَ النّاس، أي لأكون صادقًا، في تعاملي مع النّاس؟ هذا يكلف جدًّا ولا يعطي نتيجة!. النّاس كذّابون!. لا فقط كذّابون، لا بل لا يتوقّعون من غيرهم إلّا الكذب!. فإذا ما كنتُ صادقًا معهم فإنّهم لا يصدّقون!. ماذا تُراه يريد؟. إلامَ تُراه يسعى؟. لا بدّ أن يكون محتالًا!. الكذب مدرسة الشّكّ والرّيبة!. وإذا كان، فعلًا، صادقًا فلا بدّ أن يكون… ساذجًا!. رجلاه ليستا على الأرض!. إذًا، ما المنفعة في أن أكون صادقًا معهم!. هم يكذبون عليّ، ويريدونني، في العمق، أن أكذب أنا، أيضًا، عليهم!. لذا، بدل أن أضيِّع جهدي في صدق لا يجدي نفعًا، أكذب وأجتهد في أن أمثِّل الصّدق تمثيلًا!. النّاس يحبّون المظاهر!. كلّ يطوِّر، في نفسه، فنّ التّظاهر، فنّ الإقناع، فنّ التّسويق!. في نهاية المطاف، يرفعون الكذب إلى مستوى الفنّ!. والحقيقة أنّ الإنسان، من ناحية الذّوق والمزاج، لا يحبّ أن يكذب عليه أحد، هكذا، بشكل صارخ، مفضوح!. هذا تصرّف سمج، وقح… غير مهذّب!. التّهذيب، أجل التّهذيب، يعطي الكذب نكهة طيِّبة!!!. يؤثر الإنسانُ الكذبَ المموَّه، المطعّم بالسّكّر، أقصد بالصّدق!. ثمّ الكذب درجات!. الفنّ الرّاقي(!) في الكذب هو أن تعرف كيف تلفّق الكذب بالصّدق!. كلّ يعرف أنّ الآخر يكذب عليه بمقدار!. واحد يتذاكى ليَخدع والآخر يتذاكى ليَفضح!. أنت بإزاء لعبة!. مَن تراه يغلب، في نهاية المطاف؟. هذا هو إسُّ التّعامل بين النّاس!. الجميع مدركون أنّ ثمّة كذبًا في كلّ صفقة، ولكن هناك ما تهضمه(!) المعدة وهناك ما لا تهضمه!. الأقدر على الإيهام هو الأكثر نجاحًا، في المدى الأخير!.

   لأعود إلى موضوع الاعتراف لدى الكاهن، أقول: بعض النّاس، ربّما كانوا صادقين؛ ولكن، هناك فريق، ليس بقليل، بين النّاس، لا تهمّه من التّقوى إلّا، بالأحرى، صورتها!. كيف يبدو؟. هذا، بخاصّة، في مجتمع “المؤمنين”، رصيد يجمِّل صورة الإنسان في عين نفسه والآخرين، ويجعله يشعر بالرّاحة، والعظمة، والغبطة!. هذا نجاح مهمّ، في الاعتبار، في مجتمع الكنيسة، أن يقول الآخرون عنّي إنّي قدّيس، وديع، متواضع، النّور يشعّ من وجهه!. مساكين!. لا يعرفون ما وراء الواجهة!. ماذا أفعل في سرّيّ، أمام الله؟. هذا شأن آخر!. الكذب، لا فقط مدرسة الشّكّ والرّيبة، بل مدرسة التّبرير أيضًا!. لذلك أعرف جيّدًا كيف أبرّر وأمكيج أوساخ نفسي لأجعلها… ربحًا!. الضّعف البشريّ!. كلّ النّاس يفعلون ذلك!. الآخرون لا يفهمونني!. مظلوم!. لذلك، المهمّ، قبل كلّ شيء، أن أكون تقيًّا في عيون النّاس!. أمّا الله فيسامح!. يغضّ النّظر عن مساوئي!. يعرف ظروفي!. وأنا أعرف كيف أرشوه ليرضى عنّي، عند اللّزوم!. أعطي قرشًا للفقير، أعزم المطران إلى العشاء!. أقدِّم أيقونة للكنيسة!. أضع مسبحة حول معصمي!. حتّى في اليوم الأخير، أقول له ما قاله آدم لله: هي، حوّاء، أعطتني فأكلت!. النّاس خدعوني فانخدعت!. مجتمع فاسد، ماذا أعمل؟. النّاس أشرار!. هم ضالّون مضلِّلون، لا أنا!. أقولها لأقول إنّي أنا ضحيّة، أنا خير منهم، مسكين، ولكنْ، الظّروف لم تساعدني!. دائمًا، أسباب تخفيفيّة!.

   لذا، أقف أمام الكاهن لأقول له بضع كلمات!. مختصر مفيد!. أحْذَرُ أن يكوِّن الكاهن عنّي فكرة تفسد الصّورة الّتي أردت، منذ البدء، أن تكون له عنّي!. أعرف، أحيانًا، كيف أطأطئ رأسي، وأقطّب جبيني، كأنّي تائب وحزين، فعلًا، على خطيئتي، الّتي نادرًا ما أحسّ بها!. أعرفها بعقلي فقط!. كما أعرف كيف أُحشرجُ حلقي وأضغط نفسي، قليلًا، لأبدو كأنّي أبكي!. أقول الصّدق، جدِّيًا، هنا: أحيانًا، أكون تائبًا، فعلًا!. ولكن، أكثر الأحيان، أعترف بلا حسّ!. أمثّل الاعتراف تمثيلًا!. وعندما أذهب إلى الاعتراف، حفظًا لعادة الاعتراف – وهذا مهمّ، أليس كذلك؟ – أخفّف عن نفسي بأنّي لا أحبّ أن أغيّر العادة، ولكن، في قرارة نفسي، يكون قلبي كالحجر!. المهمّ أن يحلّني الكاهن من خطايا لم أعترف بها، وحتّى لا أريد أن أعترف بها!. أكتفي بشكل التّوبة، وأمنّي النّفس بأن أتوب في المستقبل؛ والمستقبل لا يأتي أبدًا!. يلفّه النّسيان ويغلِّفه انعدام الحسّ!. في الحقيقة، تصير بيني وبين الله والكاهن دالة!. ألستُ من أبناء البيت، في كلّ حال؟. وبدل أن أتوب كالعشّار، أتوب كالفرّيسيّ!. وبدل أن أعود كالابن الشّاطر، أمنّن الله، كالابن البكر، أنّي لم أتجاوز وصيّته قطّ!. آتي إلى الاعتراف وآتي إلى الكنيسة، وأصوم!. لا أحبّ قريبي؟!. هذا أمر آخر، لي تفسيري الخاصّ في شأنه!. قريبي فاسد، فإذا أحببته يتطاول عليّ بالأكثر، وأشجّعه على الفساد!. لذا أقطعه لأقطع الفساد!. على كلّ واحد أن يدفع ثمن فساده!. أمّا أنا فباق أمينًا لله!. أضع صليبًا على صدري، تحت القميص، وأزيّن غرفتي بالأيقونات، وأبخِّر وأساهم القدسات… نيّتي غير صافية من جهة النّاس؟. هذا مبالَغ به!. هم نيّتهم غير صافية من جهتي!. أرى كيدهم على وجوههم!. سامحهم الله في كلّ حال!. أقولها ولا أقصدها!. بالعكس، أريده أن يعاقبهم!. ما شأني وشأنهم؟!. “يصطفلوا”!. أحلّهم من خطاياهم على طريقتي، شكلًا، وأقصيهم!.

   على هذا، يجعلني كذبي أعتمد ثنائيّة المعيار أسلوبًا في التّعامل مع النّاس!. أنا، دائمًا، على حقّ، فيما حقّ الآخرين، دائمًا، مغروض!. أنا، دائمًا، صادق، فيما الآخرون، دائمًا، كاذبون!. أنا أكذب؟ صحيح!. أحيانًا!. ولكن، كذباتي دائمًا بيضاء!. الكذبات السّوداء أنساها!. أمّا الآخرون فمنافقون بكلّ معنى الكلمة!. لا أنسى ما يفعلونه بي ولو بعد دهر!. كيف لي أن أرى الخشبة في عيني؟. عيني لست أراها، والحقيقة أنّي لا أريد أن أراها!. فيما أرى القشّة في عيون الآخرين لأنّهم مقابلي ولأنّي أريد أن أبرّر نفسي وأقول إنّي أحسن منهم!. أدينهم لأنّي لست مستعدًّا لأن أدين نفسي!. وهذا يساعدني على الظّهور بمظهر الغيور على الأصول في الكنيسة!!!. سرقتي للنّاس، في تفسيري، حقّي، حلالي، وسرقة النّاس لي ظلم واغتصاب!. “تكالبي” على جمع المال هو من باب التّعب لتحصيل المعيشة، أراه، و”تكالبُ” النّاس على التّكديس من باب الجشع!. لا يشبعون!. أنا متى زنيت قلت: هكذا الله خلقني!. جيناتي تدفعني إلى فعل ما أفعل!. وغيري متى زنا قلت: هذا فاجر، بلا أخلاق، حيوان!.

   أستحلي، دائمًا، أن يقول الآخرون الصّدق كما أقوله أنا اليوم!. أقول ذلك من فوق نظارتي!. السّياسيّ،       – وأتكلّم، بتحفّظ، عن أكثر السّياسيّين -، يكذب ويقول إنّه يخاطب جمهوره بشفافية– جميلة هذه الشّفافية أليس كذلك؟- في محلّها تمامًا!. يسرق ويقول إنّه يحافظ على مقدّرات البلد!. يستغلّ ويتنطّح بالخدمات الّتي يوفّرها لأزلامه أي للشّعب برمّته!. والنّاس يعرفون أنّ السّياسيّين يكذبون!. فأمّا المنتفعون بينهم فيشيدون بسياسيّيهم، من باب اللّياقة!. انتبه!. اللّياقة!. مَن رآك بعين فانظره باثنتين!. وأمّا الآخرون فيعنفون ويرغون ويزبدون، لا لأنّهم غيارى على الحقّ، اليوم، بل لأنّ غيرهم استفاد دونهم!. ويبقى الموعودون الّذين تنفخهم الأهواء في كلّ اتّجاه، فيما يرفعون شعارات الغيرة على الوطن. هذه تنتهي على طريقة أبي إبراهيم، الّذي قاد تظاهرة “عرمرميّة”، ذات مرّة، مطالبًا بحقوق المواطنين، وانتهى بتنكة عَرَق!. ولمّا جرى استطلاع لمعرفة أسباب التّظاهرة تبيّن أنّ الحانوتيّ لم يشأ أن يبيع أبا إبراهيم قنينة عرق إلّا نقدًا!. لذا غضب واحتدّ ودعا إلى التّظاهر لأنّ حال البلد لم تعد تُحتَمَل!. النّفايات في كلّ مكان!!!.

   وفي هذه الأيّام، أجرى الكذب لخدماته، في النّاس، نقلة نوعيّة!. مَن لا يتقدّم يتأخّر!. صار الكذب شطارة! فالرّوادع تتداعى والأكاذيب تتمادى!. أخيرًا، تصالح الكذب والصّدق!. بات الكذب يقول نفسَه كما هو بكلّ صدق!. علنًا!. على السّطوح!. بلا روتشة!. لذلك الصّدقُ صار معادلًا للوقاحة والفجور!. وهذان صارا عنوان الحرّيّات الشّخصيّة والعامّة بيننا!. هكذا يتطبّع الكذب ويسود الكذّاب!. بتَّ ترى النّاس كما هم بلا حرج!. هذا حقّهم!. أليس كذلك؟!. والقانون، الّذي كان مفترضًا أن يكون من شرعة الله، دار على نفسه، ورذل هذه الشّرعة، وصار محاميًا عن المتمرّدين والفجّار والمستبيحين والزّناة ومضاجعي الذّكور (والإناث للإناث)، وسرّاق النّاس والكذّابين والحانثين (1 تيموثاوس 1)!. باتت الحرّيّة تعني، بكلام أوضح وأصرح، أن يصير النّاس من أبناء وبنات الشّيطان!. والشّيطان الّذي هو الكذّاب وأبو الكذّاب، أماط اللّثام عن وجهه، في كلّ النّاس، وهم مسرورون ولا اعتراض لديهم أبدًا!.

   هذه، فقط، عيِّنة من اعترافي، المضحك المُبكي، عنّي وعنكم، عسانا، إذا ما عرف كلٌّ نفسه، على حقيقتها، نصرخ ونبكي لتكون لنا، بالله، فرصة أن نتغيّر!. أن نتوب!. الله، في كلّ حال قريب!. أما يكفي؟!. وبعد ذلك، أسائل نفسي لِمَ لا أتغيَّر؟!. انتهى الكلام!. تصبحون على خير!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

عن “نقاط على الحروف”، 6أذار 2016

 

 

 

 

 

صورة كلّ إنسان كما هو
على حقيقته!.