...

سفينتا العمرِ… مع يسوع!!…

 

 

   وقفَ يسوعُ عند بحيرةِ جنّيسارت!!. وكان الرّبُّ واقفًا ومنتظرًا، لأنّه كان عارفًا كيف ومتى تأتي الخرافُ الضّائعةُ أو الضّالةُ ليتصيّدَها… يأتي بها إلى شاطئِ الأمان… يأتي بها إليه هو، ليعلِّمَها ويعرِّفَها من هو!!…

   همُّ الرّبِّ يسوعَ كان أن يعرِّفَ شعبَهُ إسرائيلَ من هو!!… أهو الّذي كتَبَتْه الكتبُ وأخبرَ مُبَشِّروهم أنّه الإلهُ الآتي والمنتظرُ منذ بدءِ الأزمنةِ وإلى يومِنا هذا؟!.

   أهذا ما سمعَهُ النّاسُ؟!… أهل صدّقوا كلمتَهُ؟!. أهل عرفوه وهو “المنتظرُ”؟!. وأنّه هو هو؟!… ألم يرتعدْ حسُّهم أمام حَضْرتِهِ؟!. ألم يسألوا أو يُسائلوا بعضُهم البعضَ… أو يُصَلّوا لخالقِهم سائلين من هذا؟!.

   لماذا يَغيبُ عن وعيِ النّاسِ، عن حسِّهِم، عن إدراكِ عقلِهم أَنَّ الّذي كان معهم هو هو!!. الكائنُ الّذي كان والّذي سيكون منذ أوّلِ الأيّامِ وحتّى مجيئِه الثّاني، حين سيجلسُ الإلهُ على عرشِه والملائكةُ حولَهُ وخرافُه الّتي ذُبحتْ مثلَهُ، عن يمينِهِ والّذين أنكروه عن يسارِهِ…

   “المدعوّون كثيرون… أما المختارون فقليلون!!”…

   لماذا مخلوقُ الله ونفسُ روحِهِ  بقيَ غريبًا عن إلهِهِ؟!. والسّؤالُ: لماذا لم يُسائلوا خالقَهم: أهذا هو الّذي وعدتَ بأن ترسلَهُ إلينا؟!…

   أين الأنبياءُ؟!. أين الرّسلُ؟!. أين معلّمو الشّعبِ؟!. أممكنٌ أن يعمى كلُّ هؤلاءِ عن اختراقِ حجبِ “لا” معرفتِهم إذ ينظرُهم خالقُهم ويناديهم بأسمائِهم قائلاً لهم: “تعالوا إليّ يا أيّها المتعبون والثّقيلو الأحمالِ وأنا أريحُكم”؟…

   ويبقى السّؤالُ: لماذا لا يهدأُ الإنسانُ، كلُّ إنسانٍ، إلى حسِّ قلبِهِ، ليفهمَ كتابةَ حروفِ الرّبِّ على صحافِ قلبِه وشفافِها فيقولَ له: … هأنذا يا ربّي واقفٌ أمامَكَ، فتكلّمْ، لأنَّ عبدَكَ يسمعْ؟!.

   هكذا يبدأُ التّعليمُ!!… تبدأُ حواراتُ الرّبِّ مع شعبِهِ الّذي لم يفهمْهُ وما زالَ لا يفهمُه، لأنّه لا ولم يحبَّهُ، لذلك لم يعرفْهُ…

   “يسوعُ رأى سفينتَين واقفتَين عند شاطئِ البحيرةِ وقد انحدرَ منها الصّيّادون يغسلون الشّباكَ”…

   هذه هي السّفينةُ السّماويّةُ والسّفينةُ الأرضيّةُ!!…

   السّفينتان هما مملكةُ الرّبِّ السّماويّة ومملكتُه الأرضيّة!!…

   هل وعى الإنسانُ منذ أوّلِ الأزمنةِ، أنّ هناكَ مُلكَ الإلهِ السّماويَّ وملكَهُ الأرضيَّ وأنّ تجسُّدَ الإلهِ على الأرضِ، هو ليحكمَ مملكتَهُ الأرضيّةَ لتصعدَ إلى السّماويّات ولا تبقى في حدودِ الجسدِ وموتِهِ واختناقِ الرّوحِ الّتي لا تشرئبُّ لتعلوَ إلى السّماويّاتِ، إلى الرّوحيّات مخترقةً حدودَ الجسدِ الماديّةِ…

   ونزلَ الصّيّادون من السّفينةِ ليغسلوا الشّباكَ… وكانت السّفينةُ فارغةً من السّمكِ… كانت السّلالُ فارغةً والشّباكُ لم تتخرَّقْ من الصّيدِ الكثيرِ… وامتلأتْ القلوبُ بالحزنِ، بالحسرةِ… ها جهدُنا اليومَ صارَ فراغًا بفراغٍ… فأين لنا من الفرحِ والاكتفاءِ والشّبعِ نحن وأولادَنا متمرمرين وجوعى ونساءَنا، تاليًا؟!…

   وكان هذا الصّمتُ العَتِمُ هو صمتَ اليأسِ!!. بُحَّتْ حناجرُ الصّيادين من عَرَقِ اللّيلِ ورطوبةِ المياه وهم يصطادون ويخطِّطون لاجتذابِ الأسماكِ لطعامِهم وعوائلِهم وأولادِهم، لشيوخِهم وصغارِهم… بعد بيعِ محاصيلِهم ببخسِ المالِ حتّى يتقاسموا الغلالَ واللّقمةَ… السّمكُ لم يحضرْ… إذًا سيأكلون الخبزَ النّاشفَ وبعضَ حبيباتِ الزّيتونِ… وينامون في صمتِ قلوبِهم وعقولِهم ونفوسِهم… ويُسْمَعُ نبْضُ صدورِهم: “يا ربُّ، لماذا تركتنا، يا إلهَنا، إلى الانقضاءِ… لماذا تصرِفُ وجهَكَ عنّا يا ربُّ؟!… إلى متى؟!… إلى متى يا إلهَنا؟!…

   وسمعَ يسوعُ وَقْعَ حسِّ فشلِهم وحزنِهم الصّامت… تحرّكَ، داخلاً إحدى السّفينتَين وكانت لسمعانَ (بطرسَ) وقالَ له، بل أمرَه: “تقدّمْوا إلى العمقِ وألقوا شباكَكم للصّيد”…

   وكان على سمعانَ، لو كان متّضعًا، أو واثقًا بيسوعَ أو حتّى محبًّا له، أن يأخذَ الكلمةَ، فيفعلَ ما أُمِرَ به بدون مداورةٍ…

كان عليه أن يطيعَ!!… أن يصدِّقَ!!. والتّصديقُ لا يأتي إلّا من المعرفةِ للآخر… من هو هذا الّذي يأمرُني؟!… لذا اعترضَ سمعانُ، لأنّه لم يكنْ يعرفُ  يسوعَ من هو!. لم يكنْ يحبُّه، لذا ساءَله يسوعُ ثلاثًا، أتحبُّني يا بطرس؟!…

   يا لطولِ أناتِكَ يا ربُّ… “فأجابَ سمعانُ وقال له: يا معلّم إنّا قد تعبْنا اللّيلَ كلَّهُ ولم نُصِبْ شيئًا… ولكن بِكَلِمَتِكَ، أُلقي الشّبكةَ”…

   “فلمّا فعلوا ذلك احتازوا من السّمكِ شيئًا كثيرًا حتّى تخرّقتْ شبكتُهم”…

   “وأشاروا إلى السّفينة الثّانيةِ ورفقتِهم أن يأتوا ويعاونوهم”…

   اليومَ تتمازجُ السّماواتُ بالأرضيّات!!…

   اليوم تتنزّلُ النِّعمُ الإلهيّةُ، فيهرعَ ناسُ الأرضِ لالتقاطِ نِعمِ  وإنعاماتِ السّماءِ ليأكلَ بنو الأرضِ من السّمكِ، من “المنِّ” السّماويِّ، الّذي هو بالحقيقةِ، الرّبُّ يسوعُ المسيح!!…

   لم يُرِدْ يسوعُ أن يأتيَ فجأةً إلى العالمِ ويخبرَهم ببساطةٍ ووضوحٍ أنّه هو الرّبُّ يسوعُ ابنُ الله الآبِ وأنّه تجسّدَ طائعًا لأبيه السّماويِّ، ليفتديَ شعبَ الله الّذي سقطَ، جماعًا في شباكِ الشّرّير، حتّى يمزِّقَ كلمةَ الاتّكالِ على الله، زارعًا الشّكَّ في كلِّ ما سيفعلُهُ الّذين أتوا قبلَهُ وبعدَهُ… مُشتِّتًا الوعيَ والحسَّ وتاركًا بني البشرِ عراةً وبعيدين عن معرفةِ الإلهِ الواحدِ المثلّثِ الأَقانيمِ…

   وكان على سمعانَ بطرسَ أن يرى بعينَيه الأرضيّتَين ويحملَ بكفَّيه غمرَ السّمكِ الّذي اصطادَهُ الرّبُّ يسوعُ لهم بكلمةٍ واحدةٍ حتّى يؤمنَ…

   أبقيَ سمعانُ بطرسُ بجنونِهِ عابدًا بالكليّةِ الرّبَّ يسوع؟!…

   هكذا كان سمعانُ، وما زالَ، مثالًا للإنسانيّةِ “الحموقِ” الّتي مرّةً تعرفُ الرّبَّ يسوعَ ومرّاتٍ تشكُّ به!!…

   إذا أطعمَها وأغدقَ عليها الخيراتِ، تنفعلُ إيجابيًّا وتبكي وتمتلئُ شعورًا وإحساسًا عاطفيَّين، وحين يتركُها ليمتحنَها؛ أهي بالحقيقةِ تحبُّه إن اختبرَها؟، أم تنوءُ تحت ثقلِ شكِّها وتنكرُهُ خائفةً منه على ذاتِها!!…

   بحسناتِ وإنعاماتِ يسوعَ لجميعِ الرُّسلِ صيّادي السّمكِ، اخترقتْ كلمةُ الرّبِّ قلبَ سمعانَ، “فصرخَ خارًّا عند رُكبتَي يسوعَ قائلاً: اخرُجْ عنّي يا ربُّ فإنّي رجلٌ خاطئٌ، لأنّ الانذهالَ اعتراه!!”…

   ولكن حين أُسلمَ يسوعُ، صَرَخَتْ جاريّةٌ إذ رأتْ سمعانَ: هذا واحدٌ من أتباعِهِ… لهجتُه من لهجةِ معلِّمِهِ… فأنكرَ بطرسُ وفرَّ هاربًا إلى الخارجِ…

   وحين ألحّتِ الجاريّةُ، مصرَّةً: هذا من أتباعِهِ… زعقَ بطرسُ… “أنا لا أعرفُ الرّجلَ!!”… أنكرَ ربَّه، أنكرَ الّذي قالَ له أنتَ الصّخرةَ وعلى هذه الصّخرةِ أبني كنيستي…

   وبنى الرّبُّ كنيستَهُ على صليبِهِ لا على أيِّ إنسانٍ…

   هذه حكايةُ الإنسانِ بعد السّقوطِ… وهي أنّه نسيَ وجهَ إلهِهِ في الفردوسِ والتزمَ وجهَ الشّيطانِ… بل تبنّى ذاك الوجهَ الجديدَ، ليصيرَ وجهَهُ!!… فكرَهُ، منطقَهُ… شكَّه… بخلَهُ… قتْلَهُ روحيًّا وجسديًّا لفقراءِ الأرضِ والمُستضعفين… ثمّ يسوعَ!!!.

   لكنَّ الرّبَّ صرخَ بالإنسانِ: من رآني فقد رأى الآبَ”… كذلك فيليبُّس سأل الرّبَّ…

   و”توما” شكَّ حسدًا… وحين لمسَ الجنبَ بإصبعِهِ صرخَ: “ربّي وإلهي”… ونحن كلُّنا، كلُّنا خطئْنا وأثِمنا ولسنا بأهلٍ لأنّ نرفعَ أعينَنا لننظرَ علوَّ السّماءِ…

   أَهكذا سيبقى ربُّنا، سيّدُنا ومخلِّصُنا ألعوبةً “لمزاجيّاتِنا” في الإيمان به والاتّكالِ عليه؟!. ومحبّتِهِ وصونِه أرواحِنا وكياناتِنا لنتحدَّ به؟!…

   الرّبُّ يسوعُ ظهرَ للقدّيسِ سلوانَ الآثوسيِّ حين أحجمَ الإلهُ عن الرّدِّ عليه وتخليصِهِ من شكِّه، وإذ وقفَ أمام أيقونتِهِ قائلاً له: “أنت قاسٍ”… فخرجَ الرّبُّ حيًّا وابتسمَ له… وخرَّ سلوانُ باكيًا تحت الأيقونة… ثمَّ عاشَ عمرَهُ نائحًا على خطاياه، وفيها أعطاه يسوعُ نعمةً وحكمةً تفوقُ كلَّ حكمةٍ في هذا الدّهرِ وعلّمَهُ أنّه إذا أرادَ أن يحبَّهُ حقيقةً، عليه أن يحبَّ أعداءَهُ بدءًا!!… وبدءًا، تدرّجَ في خبرةِ حياتِهِ: “أخي هو حياتي!!”… ثم صعَّدَ وتيرةَ الحبِّ بقولِهِ: “أخي هو حياتي!!”… وكرّرَ معرفتَهُ الحياتيّةَ تلك… أخي هو العالَمُ الغريبُ وكلُّ خاطئٍ أو بارٍّ.. هو حياتي!!…

 

الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان

عن “تأمّلات في الإنجيل”، الأحد الرّابع عشر بعد العنصرة، 25 أيلول 2016

 

 

 

سفينتا العمرِ
مع يسوع!!…